ليل صاخب جدا بين رؤى منتج النص وتأويلات المتلقّي

محمد جبير

تشكّل سرديات البوح الأقرب إلى النفس الأنثوية الكاتبة عن تجارب حياتية، سواء الأفراح أو الخيبات، وهي تكاد تكون الأقرب إلى شدّ المتلقّي لمتابعة تفاصيل ذلك البوح والتوغّل في أعماق النفس البشرية لاكتشاف تفاصيل ما اشتبك من معيقات في الحياة اليومية ورسم أفق تصوّري للمشاهد السردية، قد يكون تصوّرا ذاتيا من خلق المتلقّي بعيداً عن إرادة الكاتب ومسارات تطور الشخصية السردية أو يكون سابقا، لتصوّرات ورؤى منتج النصّ لما يتوفر  عليه من تجارب من قراءات ومسموعات قد تفوق ما لدى منتج النصّ.

يحمل النصّ المطبوع قصديات المنتج حسب توصيف أيكو، وهذه القصديات أو “الغرضيات” من كتابة نصّ سردي معيّن إنّما تكشف عن مجموعة الخبرات المعرفية والحياتية للمنتج،إلّا أنها لا تكون بالضرورة ملزمة للمتلقّي ومحددة لتأويلاته الذاتية، إذ إن مؤولات المتلقّي تنطلق من خزين معرفي قد يكون مختلفا عن خزانة منتج النصّ،أو مطوّرا ومضيئاً لمقصديات النصّ، وتبقى كلّ النصوص فضاء مفتوحاً للتأويل والتأويل المضاد وفق استجابات المتلقّي لمعطيات تلك النصوص وتفاعله الجادّ مع تلك المعطيات لتحقيق القراءة الفاعلة المنتجة التي تُبقي أفق القراءة والتأويل مفتوحا ًإلى  فضاءات لا متناهية.

يسير نصّ “ليل صاخب جدا” للقاصّة والروائية “هدية حسين” باتّجاهين متوازيين، وهو من النصوص القصيرة والتي صدرت عن منشورات دار الذاكرة في بغداد،الاتّجاه الأول هو إنّه يسير بشكل متوازن مع حكايتها التي هي موضع التوازن مع مسار رواية يقوم السارد بقراءتها  وهي رواية “فتاة القطار” للكاتبة “بولا هوكينز”، وما تقوم بسرده “الست ياسمين” من تفاصيل حكايتها.

نحن في هذا النصّ أمام حكاية تُقرَأ في كتاب، ويقوم السارد الضمني بتوظيف تلك الحكاية المقروءة مع حكاية السارد “ياسمين” لتشكيل حكاية جديدة يتفاعل بها المقروء مع الخيالي لإنتاج حكاية سردية تتشكّل في وعي المتلقي من مجموع التفاصيل التي تبثّها الكاتبة من خلال انثيالات البوح الصامت لوقائع الخيانة الزوجية أو الرضوخ للذل اليومي “في هذه اللحظة لم أفكّر في البيت، بل بالأكاذيب التي عشتها معه، وهاهي كذبة أخرى تأتي بعد موته، حتى ليخيّل لي بأنه سيخرج من القبر ليقول لي بأنه لم يمت، وسيبقى على الأرجوحة نفسها يصعد وينزل، وينزل ويصعد، لايعتقني بالطلاق،ولايطلق زوجته”. “الروايةص102“.

إذا كان الأمر هو ” أنا فقط أقول ما أتمنّى أن أقوله “.”الرواية – ص68″، وهو ما يحسد نسق الاعتراف في النصّ الذي جاء على شكل بوح سردي ذاتي مع النفس أو مع الآخر الذي يتلاعب بمشاعر السارد الرئيس في النصّ “الروايات ليست سوى تزجية وقت ابتكرها الكُتّاب ليجمّلوا ما عجزت عن تجميله الحياة، وأنا بدوري أحاول أن أجمل سنين عمري قدر ما أستطيع”.”الروايةص62“.

لايمكن أن يكون السرد عاملا مساعدا في نبش قبور الذاكرة للوصول إلى حقيقة مراوغة تضعنا في دوامة البحث ودوار البوح الصارخ لإنتاج صورة مفترضة عن واقعة شخصية نسعى إلى تعميها في مرحلة التوثيق السردي، الّا أنّ ما سعت إليه الكاتبة هو الخروج من دائرة البوح الذاتي إلى المزامنة بين المعرفي “القراءة السردية” والواقعة اليومية بما تحمله من إشكالات وتهويمات وانثيالات في غياب الواقعي وحضور الإيهامي أو الافتراضي الوهمي الذي يشعّ من خيالات السارد في لحظة شروده مع الكلمات أو الوجوه في رحلة القطار بين بغداد والبصرة.

هذه الرواية القصيرة، كتبت باختزال دقيق للكشف عن العالم الداخلي الذي تعيش في دوامته “الست ياسمين”، وهو مسعى للكشف عن الاضطهاد الأنثوي في لحظة اكتشاف الخيانة الذكورية، مما يشكّل الحدّ الفاصل في استمرار علاقة زوجية إيجابية، والكاتبة “هدية حسين” في هذا النصّ السردي تناقش جانباً من جوانب الأسرار الأنثوية الغامضة بغية استكمال مشروعها في الغوص بعوالم المرأة في بنيته الاجتماعية والإنسانية والثقافية لتقديم صورة قد تكون خارج إطار السياقات السردية التي قامت بتجسيد صورة المرأة على أنها جسد ينبض بالرغبة المستباحة أمام ذكورية غاصبة، فهي تكتب عن المرأة بوصفها كياناً اجتماعياً قائماً بذاته ويحقّق ذاته الجمالية من خلال فعله الاجتماعي الفاعل والمؤثّر في الحياة العامة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة