الاطراس الاسطورية في الشعر العربي الحديث.. نصف قرن من الزمن

شكر حاجم الصالحي

منذ صدور «اغنية في قاع ضيق» مجموعته القصصية البكر عام ١٩٦٩، وانا أقرأ له بشغف المعجب بما يبدع قولاً وكتابة، وتوثقت عرى اخوتنا عبر لقاءاتنا الصباحية في مقهى الخلود وفي مساءات لذائذنا الباذخة في الحلة المزيدية وفي البدء كانت مجلة التراث الشعبي حاضنتنا وميدان حضورنا المشترك وكان للراحل لطفي الخوري رئيس تحريرها كرم رعايته، وتمضي بنا الايام مترعة بالجدل الخلاق والاختلافات الودودة ، وتترسخ محبتنا اثر صدور (الشمس في الجهة اليسرى) المجموعة القصصية المشتركة له وللأصدقاء: محمد احمد العلي، جهاد مجيد، وفاضل الربيعي. وقد تجرأت حينها على نشر مقالة عنها في ( راصد ) الفكيكي اوائل ١٩٧٣ ، يوم كان ناقدنا الكبير عبد الجبار عباس مسؤول قسمها الثقافي ، وهكذا ازهرت واورقت محبتنا ، ثم تكرست بالعمل الثقافي في لجان دور الثقافة الجماهيرية فأصبحنا لا نفترق إلا لنلتقي ، وكرت مخيلته ابداعاً وفاضت قريحته فأصدر رواياته: النهر ١٩٧٨ ، شرق السدة .. شرق البصرة ١٩٨٤، ومدينة البحر ١٩٨٦، لكن أخي ناجح المعموري غادر عالم السرد وأجوائه فأدار بوصلة اهتماماته وقراءاته الجادة في جذور الاساطير وحضارات الشرق ، وكان له في هذا الدأب والبحث ما يزيد على ثلاثين كتاباً صدرت في بيروت وعمان وبغداد ودمشق، ومازال المعموري يغرد خارج سرب المألوف والسائد من الدراسات والبحوث التي اهتمت بهذا الشأن ، وله انجازات تنتظر الاشهار في قادم الايام ، ولم يكتفِ المعموري بما حققه من حضور ثقافي متفرد بل اتسعت مديات اشتغالاته فكتب دراسات ناضجة عن الشعر والفوتوغراف والفن التشكيلي ، وله في ذلك اكثر من انجاز لفت انتباه ذائقة المشغل النقدي … بعد كل هذه المعطيات المتحققة هل خسر السرد ناجح المعموري قاصاً وروائياً؟ ام نبتهج بحضوره الراهن المتعدد الانجازات؟ هذه الاجابات نتركها لفرصة اخرى مواتية وليست الان. اما كتابه هذا : الاطراس الاسطورة في الشعر العربي الحديث فهو توكيد على صحة ما أشرت وتوصلت إليه من تنوع ثقافي وثراء معرفي يستحق المعاينة والفحص والاشادة ، فقد بذل ناجح المعموري جهداً مكثفاً ومميزاً في الكشف عن المسكوت عنه بين ثنايا النصوص التي قرأها بروية ورؤية ثاقبة ، واشار بمهارة المبدع الى ما انجزته هذه النصوص المختارة من كشوفات غنية أسهمت في الاقرار بأهمية وفاعلية الشعر في راهننا الثقافي وجددت ثقتنا واعتزازنا بما أبدعه المعموري في هذا الانجاز المميز ، فقد قرأ نصوص الشعراء العراقيين: موفق محمد، عبد الزهرة زكي، اديب كمال الدين، دنيا ميخائيل، شكر حاجم الصالحي وآخرين كما قرأ نصوص الشعراء العرب : عبد الله رضوان، محمد ضمرة ، المتوكل طه ، وليد الشيخ ، وماجد ابو غوش ، واستطاع المعموري ان يقدم للقارئ عينات منتخبة من هذه النصوص التي أخضعها لاجتهاده ، وكشف عمق صلتها بأساطير الشرق ومتبنياتها المتداولة ، وهو اذ تفرد في منهجه هذا الذي أوضح خلاله مدى استثمار هذه النصوص للتراث الأسطوري ومزاوجته مع معطيات الواقع المعيش وقوة تفاعلها وتشابكها في نسج شواهد على ثراء هذه الأساطير وعمق تأثيرها ، وفي مقدمة كتابه هذا يفصح عن دواعي اختياره هذه القراءة المتفردة اذ يقول : …. والأطراس الأسطورية في الشعر العربي الحديث كمحاولة خصصت لمعرفتي بأساطير الشرق والتداخل الموجود بين عدد من الخطابات، ولذا حاولت هذه الدراسات الكشف عن التناصات الموجودة في نصوص مختارة حصراً وكشفت الدراسات عن تباين واضح بين التجارب وهو أمر طبيعي للاختلاف الثقافي والتباين بوعي الاسطورة وممكنات صياغتها كوحدة كاملة، أو التقاط شفرات منها أو علامات محددة ومحاولة سحبها للواقع، ويضيف: والكشف عن تماثلات بين الاسطورة والشعر لانهما اعتمدا المجاز والانزياح … وسنحاول هنا تقديم إنموذجين لقراءة المعموري لبعض النصوص المختارة وسيكون نص (بيوض العمى )للشاعر موفق محمد خيارنا الاول لما فيه من طاقة تأويلية ضخمة كاشفة عن ثقل مواجع المنتج وثراء كوابيسه اليومية : في عيني تفتض الغيوم بكارتها لتبدأ البكاء وفي عيني يضع العمى بيوضة وينام ….. أو …فلا غرابة من هذا المطر المتشح بالسواد حزناً على رجولته … ص ١٩٥ يقول المعموري : ان بيوض العمى بيوض للموت ، وهنا يكمن اختراق اللغة عبر اسطورتها الأزلية ( البكرية ) وشحنها بقوة المجاز فيها ، لأن الموت لا بيوض له ، وانما يحصد بيوضاً وتكمن في الموت عقدة إخصاء الحيوية ، حتى تتعطل الحياة الى الابد وهذا ما أهتم به النص: فلم تعد الأرض / أنثى بل هي الذكر الوحيد وها نحن نرى كما يرى المعموري ان الوظائف في النص مقلوبة ، معكوسة حيث الإبقاء على الموت الى الأبد ، لان البيوض متكاثرة دوماً ، وستظل منتجة للعمى / العالم الأسفل / الموت ، وهنا تعطل لوظائف الانبعاث والخصب وارتداء الحياة الحزن ثوباً أسود حتى الابد … ص ١٩٧ وفي النموذج الآخر نقرأ مع المعموري ما رآه في ديوان عبد الله رضوان « موت الابيض شبيهي « ونختار معه نص «وهذا أنا الراعي « الذي يقول عنه الاستاذ ناجح المعموري : النص مكون من خمسة مقاطع ، شكلت الثلاثة الاولى وحدة نصية مستقلة دلالياً ، واستقل الرابع والخامس بوظيفة لكل منهما ، ترشحت عن معنى الوحدة النصية الأولى ، على الرغم من ان الاطار الفني / والفكري واحد ، ويكشف تنوع الوحدات في النص تعدداً للعناصر / الخصائص التي صاغت شخصية الراعي / وبلورت الرعوية نظاماً ثقافياً …. وكان الشاعر عبد الله رضوان قد سحب التنوع الأول وجسده بتعدد فني / وفكري وفي هذا كشف واضح لمعرفة المرحلة حضارياً مع أنساقها الثقافية والاساطير التي لعبت دوراً في السائد : وهذا أنا الراعي أسوق النجوم قطيعاً الى عشها واعرف ( شبابة ) العمر لحناً لذاك البياض النديّ المجون الشجي ، الهوى والجنون ولا اريد أن استغرق في عرض محتويات (الاطراس الاسطورية في الشعر العربي الحديث) لكي لا افسد على القارئ المنتج متعة المتابعة والقراءة ، اذ ليست هذه القراءة البديل عن البحث الجاد لاقتناء هذا المنجز المهم وقراءته بتفحص ، ففيه الكثير من الغنى والثراء. وفي الختام لابد من التنويه ان (الاطراس الاسطورية ..) الاصدار الثاني لأمانة عمان لكاتب عراقي بعد كتاب طراد الكبيسي ، وفي ذلك ما يدعو للفخر والاعتزاز بالإبداع العراقي وقاماته المديدة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة