كه يلان محمد
سيكون الجمودُ والتخشب نصيب تلك المفاهيم الفكرية والأدبية التي لا تقبل بالمراجعة ويرفضُ حراسها طرح الأسئلة بشأنها لأنَّ الأفكار تستمدُ قوتها من سيرورة الحياة وإنصاتها لحركة الواقع إذاً، فإنَّ الفكر لا يقع خارج العالم، وما تتمُ معاينته في الواقع يؤكدُ ضرورة فتح حلقة النقاش حول عدة مفاهيم على ضوء ما يمرُ به المُناخ الثقافي من التحولات، نتيجة إحداثيات تكنولوجية وثورة رقمية حيثُ أبانت التطورات الأخيرة بأنَّ وسائل التواصل الاجتماعي ليست أفيون الجيل الجديد كما رأى المنتسبون إلى الحرس القديم إذ تحولت المنصات الرقمية إلى أدوات تمكنُ المُهمشين للتعبير عن هموهم. بالتالي نشأَ خطاب جديد مقابل ما سمي بالخطاب النخبوي. أكثر من ذلك فإنَ النخبة تحاكي العامة في سلوكياتها. عليه فليس من المستغرب أن ينحسر دور النخبة الفكرية ويغيبُ تأثير المثقفين في بعض المواقف. ما نقله الكاتب اللبناني عبده وازن على لسان المثقفين الذين اعترفوا بأنَّ نهر المتظاهرين قد ابتلعهم عندما نزلوا إلى ميادين وساحات المدن، يكشفُ عن بصيرة الجمهور في قراءتهم للواقع إذ يسبقُ هؤلاء بعفويتهم المنظرين في إدراك مُتطلبات المرحلة وعمق الأزمة بعيداً عن وحل الأوهام والشعارات.
ويعتقدُ المفكر اللبناني علي حرب بأنَّ نشر المعرفة انتقلت من الصحيفة والكتاب والجامعة بوصفها مناطق نفوذ المثقفين إلى الإعلام. طبعاً فمع الإعلام البديل قد خسر المثقف مزيداً من الأدوات المكونة لسلطته المعنوية. والحال هذه فإنَّ ما يصنعُ الرأي العام هو الصور والمنشورات المتداولة في البيئات الافتراضية التي تعبرُ عن بلاغة البسطاء على حد قول شوقي بزيغ، وليس المثقف ما ذكرَ آنفاَ عن وضع المثقف وتعويض دوره الفعال بحضوره الشكلي قد ينسحبُ أيضاً على وظيفة الناقد الأدبي بحيث يبدو الناقد أقل فاعلية من القارئ العادي لذا يُعقد الرهانُ على الأخير وما يقوله عن النصوص الأدبية.
علبة الناقد
لا يستقيم الخطاب المعرفي دون وجود أدوات تدعمه وتوفر له فرصة التفاعل مع المعطيات الجديدة بما أنَّ النقد عمل معرفي قبل كل شيء يتطلبُ التجدد في الأدوات والرؤية حتى لا يحل به الركود، ولا ينتهي إلى الجمود غير أن الملاحظ في حالة النقد مؤخراً فراغ علبته من الأدوات التي تمكن على إجراء قراءات عميقة للنص واستنكاه ما يضمره من مؤشرات دالة على التحول على الأصعدة كافةً إذ قطع بعض الروائيين أشواطاً في تناول ما يسمى بالتابوهات كما نجحوا في إيجاد لغة روائية مُتفاعلة مع واقع العصر ومُتطلباته العلمية، فيما تراوح معالجات النقاد في تدوير بعض المُصطلحات والعبارات التي لا تخدمُ العمل الأدبي ولا ذائقة القارئ لذلك فلا بد للناقد أن يقرَ بضرورة مراجعة ما تحتوى عليه علبته لأنَّ عدداً من الروائيين قد غامروا بارتياد مستوى مختلف في اختيار المواضيع والإشكاليات العلمية هذا ما يفرض خروج النقاد من دائرة الاختصاص ومتابعة شتى الحقول المعرفية لأنَّ مقاربة نص يتناول مشكلة البيئة بأدوات تقليدية لا تضيف شيئا للموضوع ولا تعدُ مكسباً لعملية النقد كما أنَّ الروائي قد أدرك لغة العصر والتكوين العقلي الجديد فمن المفروض أيضاً أن لا يكتفي الناقد بدوره المحدود خارج الحلبة واللافت في سلسلة الحوارات التي أجريت مع عدد من الروائيين هو تأكيد المشاركين على تراجع مستوى النقد مبدين استغرابهم عن شحة المصادر النقدية بينما نعاصر ظاهرة تضخم الرواية كما أن الإخوانية – على حد تعبير خضير فليح الزيدي – قد فرغت العملية النقدية من أغراضها المعرفية، وهنا يكمن سر فشل النقاد في اكتشاف المواهب والنصوص القيّمة.
أهم ما يجبُ الإشارة إليه ونحن بصدد عملية النقد هو غياب المقارنات بين النصوص المترجمة وما يكتب بالعربية وانعكاس ما ينقلُ من اللغات الأجنبية في أجواء واتجاهات الرواية العربية. طبعا أنَّ رصد هذه التمثلات ملمحُ مهم في الاشتغالات النقدية.
أخيراً فإن ما يجب الاعتراف به أن دور القارئ لم يتوقف عند تشكيل الذائقة والترويج للعمل الأدبي، إنما يتحكمُ بإيقاع حركة الكتابات الإبداعية فإنَّ نسبة التفاعل ومستوى التواصل يدفعان بالمبدع للشروع بكتابة عمل جديد.