كارل بيلت
ستوكهولم ـ مع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي، تعج أوروبا بالتكهنات حول من سيتولى قيادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي الرئيسة خلال السنوات الخمس المقبلة. بين المناصب المطروحة للمنافسة تلك التي يشغلها حاليا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، ورئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك، والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية فيديريكا موجيريني، ورئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي.
الواقع أن القضايا الخاصة بكبار الموظفين ليست تافهة. ففي عالم السياسة، تشكل الشخصية أهمية كبرى، وكثيرا ما لعبت دورا محوريا في تحديد مسار الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لا ينبغي للعبة أسماء القيادات أن تكون المحور الرئيس للتركيز. فأهم منها كثيرا تلك المناقشة الدائرة حول أجندة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية للفترة من 2019 إلى 2024.
بعد قمة غير رسمية في سيبيو برومانيا في وقت سابق من هذا الشهر، من المقرر أن يعود القادة الأوروبيون إلى هذه القضية بنحو جدي في وقت لاحق في يونيو/حزيران. وبرغم كل الاهتمام بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، فإن رؤساء دول الاتحاد الأوروبي هم الذين سيتولون إعداد وصياغة أجندة الكتلة. بعبارة أخرى، ستكون حكومات الدول الأعضاء، التي تعمل من خلال المجلس الأوروبي، هي القوى التي تتولى المراقبة بعد ظهور نتائج الانتخابات.
عندما تأسست الجماعة الاقتصادية الأوروبية، الكيان السابق للاتحاد الأوروبي، في عام 1957، كان هدفها الأساس تأمين السلام بين فرنسا وألمانيا، بدءا باتحاد جمركي للسلع الصناعية (للألمان) وسياسة زراعية مشتركة (للفرنسيين).
عمل هذا الترتيب كأساس للأجندة الأوروبية لعقود من الزمن. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته، أعربت الدول التي كانت محاصرة خلف الستار الحديدي عن رغبتها في «العودة إلى أوروبا». وفي السنوات التي تلت ذلك، مر الاتحاد الأوروبي بتوسع هائل لكي يضم هذه الدول. وكان هدفه ينقسم إلى شقين: مساعدة الدول الأعضاء الأحدث في تنميتها اقتصاديا وسياسيا بعد الشيوعية، والحفاظ على السلام والاستقرار على مستوى القارة من خلال دمج أوروبا الوسطى والشرقية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
كانت حقبة ما بعد الحرب الباردة مباشرة فترة من الثقة بالذات والتفاؤل بالاتحاد الأوروبي. وتدريجيا، توسعت مهمته الاستراتيجية إلى ما هو أبعد من مجرد الحفاظ على السلام، إلى وضع خطوط الانموذج الأوروبي للسيادة المشتركة والتكامل في كل اتجاه. وقيل إن انموذج الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يقود إلى حكم أكثر استقرارا للعالم بأسره.
لكن على مدار العقد الماضي، انهارت جهود الاتحاد الأوروبي لإبراز انموذجه في الخارج. وفي أعقاب الانهيار المالي في عام 2008، وأزمة اليورو، فضلا عن الأوضاع المعقدة التي تفرضها الهجرة على نحو متكرر، تحول الاتحاد الأوروبي إلى الداخل منغلقا على ذاته. في ذات الوقت، تحول جوار الاتحاد الأوروبي المباشر من دائرة من الأصدقاء والشركاء المحتملين إلى حلقة من نار.
الآن، بدلا من محاولة تصدير الاستقرار، تتلخص أولوية أوروبا الاستراتيجية في حماية نفسها من العالم الأوسع. في محاولة لضخ دماء جديدة إلى شرايين الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من إدارة الأزمات الداخلية، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حثيثا إلى ترسيخ «أوروبا التي تحمي». وفي أعقاب «الدعوة إلى حمل السلاح» التي أطلقها ماكرون في مقال نشرته مؤسسة بروجيكت سنديكيت (Project Syndicate) في مارس/آذار، تبنت قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل الشعار وقامت بتجميع مبادرات متعددة تحت عنوان حماية أوروبا في عصر الاضطرابات العالمية.
هذه الحماية ضرورية بلا أدنى شك. وتستلزم الضغوط التي تفرضها الهجرة، والتهديد المستمر المتمثل في الإرهاب، وتصعيد النزاعات الاقتصادية، استجابة سياسية أكثر قوة. وفي حين تبين أن جهود معالجة بعض هذه القضايا مثيرة للجدال وصعبة، فإن أجندة الحماية الأكبر يجري تنفيذها الآن.
مع ذلك، من الواضح بالنظر إلى المستقبل أن التدابير الحالية لن تكون كافية. فالآن يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في عالم تهيمن عليه منافسات القوى العظمى، والعدوانية الصينية، والشراسة الروسية الرجعية. الأسوأ من ذلك أن الاتحاد الأوروبي، في مواجهة هذه التهديدات، لم يعد بوسعه أن يعتمد على الولايات المتحدة كصديق وحليف غير مشروط.
الآن، بات لزاما على الاتحاد الأوروبي أن يختار بين تأمين مكانه على المسرح العالمي والتحول إلى ملعب لقوى أخرى. وهو قرر استراتيجي من الدرجة الأولى ــ وسوف تترتب عليه كل خيارات السياسة الأخرى.
إذا تجاهلت أوروبا الدراما التي تقض مضاجع العالم من أمريتسار في الهند إلى أكادير في المغرب، فسوف تفشل في ضمان السلام في جوارها وتخون بذلك الوعد الذي بذلته لمواطنيها بحمايتهم من المخاطر الخارجية. ولكي يتمكن الاتحاد الأوروبي من الالتزام بمهمته الأصلية ــ إرساء السلام وتثبيت الاستقرار في الداخل ــ فيتعين عليه أن يصبح لاعبا عالميا.
الخيار واضح إذن. فلابد أن تكون مهمة أوروبا الاستراتيجية في السنوات المقبلة تأمين موقعها على الساحة العالمية، ولابد أن تجري تسوية كل المسائل المرتبطة بالسياسة والقائمين عليها بطريقة تعزز هذا الهدف. من الواضح أن رئيس المجلس الأوروبي القوي، الذي يعمل بشكل وثيق مع ممثل أعلى قوي، يشكل ضرورة أساسية. وسوف يحتاج كل منهما إلى تعبئة موارد ومواهب كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمنع العناصر المكونة للاتحاد الأوروبي من الانفراط في اتجاهات متعددة بفِعل القوى العالمية.
إذا تبنت دول الاتحاد الأوروبي هذه المهمة، فسوف تكون أوروبا في وضع يمكنها من العمل كقوة عالمية لسنوات قادمة. وإلا فإنها ــ والاتحاد الأوروبي ككل ــ ستجد نفسها تستقل عربة جامحة لا يمكنها السيطرة عليها أو كبح جماحها.
- كارل بيلت رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقا.
بروجيكت سنديكيت
www.project-syndicate.org