بالرغم مما تتعرض له هذه المفردة (الفساد) من حملات لشيطنتها والقاء كل أشكال الموبقات عليها، الا انها تؤدي دورها في مسار ولادة وتطور وشيخوخة الأشياء وفناءها. وفي العراق الذي وضعته تقارير منظمة الشفافية الدولية على رأس البلدان التي؛ استباحتها حيتان الفساد المتنوعة الوظائف والأشكال، تتصاعد بين آونة واخرى فزعات للتصدي لهذا الوباء الذي تسلل الى شتى تفصيلات حياتنا الفردية والجمعية، آخرها هو اعادة تفعيل المجلس الاعلى لمكافحة الفساد بادارة رئيس مجلس الوزراء نفسه. وقبل ان نتطرق الى هذا الملف الشائك، لابد من الاشارة الى الجهود الفردية المخلصة والتي تبذل ما بوسعها للنهوض بمثل هذه المسؤوليات، لكنها ستصطدم سريعاً بالقدرات الفعلية لمنظومة الفساد وشراسة غيلانه، ونوع الخطوط الخلفية والاحتياطات الهائلة التي يستند عليها. ان الكشف عن عدد من حالات السرقة والرشوة والابتزاز وسوء استغلال الوظيفة الحكومية وغير ذلك من طفح هذا الوباء، لن تتجاوز الدور الذي تقوم به “العطابات” وهي في كثير من الاحيان تساعد قوى الفساد على تجديد نشاطها ودفعها الى مساحات اوسع. بعد هزيمة عصابات داعش الارهابية عسكرياً، وضع ملف الفساد على رأس مهمات السلطات العليا في البلد (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ويفترض ان تحظى بدعم ما يسمى بالسلطة الرابعة. هذا على الصعيد التعبوي والنظري، لكن مرور عامين على ذلك اثبت عكس ذلك تماماً، حيث لم تعرف عن هذه الطبقة السياسية بكل اشكالها وعناوينها المتمددة على تضاريسنا الوطنية (من الفاو لزاخو) اية جدية في التعاطي مع هذا الملف لأسباب لم تعد خافية على المتابع الحصيف.
علينا ان نتفق أولاً في تشخيص اساس الفساد ورأسه، وهذا ما لا تطيقه حيتان المشهد الراهن، والتي تدفع بكل ما تمتلكه من حيل ودهاء كي تنصب كل الجهود للهرولة خلف الذيول بعيدا عن رأس الفساد واساسه المتمحور حول المنظومة الفكرية والقيمية والتقاليد السائدة، المسؤولة عن بقاء وتمدد هذا الوباء. ومن يتابع المشهد العراقي قبل “التغيير” وبعده بمقدوره التعرف بيسر على نوع وطبيعة “الاحزاب” والجماعات والكتل المتنفذة (غالبيتها طائفية متخلفة وشوفينية وعشائرية تعمل وسط مناخات مثقلة بالشعوذة والدجل والانحطاط الفكري والقيمي..) ويرفد كل هذا الخراب ما يمكن ان نطلق عليه بـ (دغل الليبرالية والديمقراطية والنقابات واليسار) وما تبقى من حطام ذلك المعسكر السياسي والاجتماعي، الذي تحول الى مستنقعات بفعل الركود الطويل. لذلك كله سرعان ما تتحول مثل هذه الفزعات الى وسيلة اضافية بيد الكتل والجماعات المتنفذة لتصفية الحسابات ضد بعضها البعض الآخر، من دون تحقيق أدنى تقدم بهذه المعارك الوهمية.
ما يطلق عليه بتجليات واشكال الفساد المادي والقيمي، هي في واقع الامر معطيات تتناغم وما انحدرنا اليه كدولة ومجتمع (افرادا وجماعات) في العقود الاربعة الاخيرة. النظام التوليتاري والحروب والحصار الطويل زمن النظام المباد، وسلوك ورثته من قراصنة المنعطفات التاريخية من الذين ابتكروا اساليب ووسائل متنوعة للفرهدة واللصوصية، مهدت الطريق لتورط اعداد كبيرة ممن يفترض بهم الوقوف الى الجانب الآخر. هذه الاعداد الهائلة من المتورطين بالفساد تسحب البساط من تحقق اهم شرط في هذه الحرب، الا وهو ثقة الجمهور ودعمه لها بالضد من اخطبوط الفساد، وعندما يجتمع هذا مع ما اشرنا اليه من الانحدار السياسي والثقافي لما يفترض انها تنظيمات وجدت من اجل خدمة الشان العام؛ ندرك عاقبة مثل هذه الحروب المزعومة..
جمال جصاني