الرواية والفلم
تقدم الرواية للقارئ متخيلا واسعا للمكان والزمان الروائي، وحتى لو حدد كاتب الرواية مكانا معروفا، مدينة او قرية موجودة في ارض الواقع ، لكن هذا لا يعني بضرورة معرفتها من قبل جميع القراء، فلو اخذ كاتب ما من لندن او باريس او بغداد او غيرها من المدن مكانا لروايته، فربما تكون هناك نسبة كبيرة من قراء هذه الرواية لم يزر لندن او باريس ولم يسبق له ان مر ببغداد، وقد يقول البعض ان السينما والتلفزيون قد وفرت مشاهدة هذه المدن عبر عديد افلامها الروائية والوثائقية والبرامج التلفزيونية، لكن لكل مدينة ضواحيها وقراها خصوصية ما، والحكاية لا تقع بالضرورة في ميدان عام في احد هذه المدن وبالتالي فالجهل بها وبتفاصيلها موجود ولو بنسبة متفاوتة، الامر الذي يستدعي مخيلة المشاهد الى تصور المكان وتفاصيله، بقدر اطلاعه وقراءته، اضافة الى ان الفعل المحرك للحكاية يضفي بعدا جديدا للمتخيل واحيانا يفرضه عليه، فتخيل مكان تحصل فيه جريمة قتل ، يختلف بالتأكيد عن تخيل نفس المكان تدور فيه احداث قصة حب رومانسية .
الزمان الروائي، قد يحيل هو الاخر القارئ الى خيال يفترض زمانا لم يعشه ، يتحرك فيه مع من تخيلهم من شخصيات، رسمها هي الاخرى خياله، وان يكون قد تأثر بالوصف الذي يوفره الراوي لكليهما، الزمان والمكان، لذلك يذهب خيال القارئ بتصور زمانا يفترضه ذهنه، مع الاسقاط الثقافي والاجتماعي عليه بالقدر الذي يؤثر على هذا التصور.
الشخصية الروائية هي شخصية يحاول الراوي جاهدا ان يقدمها لقارئه من خلال التوصيفات الدقيقة لها، ليس على مستوى بنائها الجسماني ولون بشرتها ، الملابس التي ترتديها او التقاطيع التي تتصف بها ، بل كذلك على مستوى سلوكها النفسي والاجتماعي، محاولا ان يحببها لقارئه او يستدعي كره هذا القارئ لها .
لكن كل من الزمان والمكان والشخصية الروائية، تختلف تماما عند اقتباس هذه الرواية وتحويلها الى فيلم سينما، هذا الاختلاف اسه الاول هو الوسيط التعبيري للسينما وهو الصورة، لان الصورة تضع امام ابصارنا المكان والزمان والشخصية مجسدة ضمن اطار ثابت، الامر الذي يلغي المتخيل الذي تخيلناه، من خلال احتلال الصورة السينمائية لمكانه، والسؤال هنا ايهما اكثر جمالية من الاخر، المتخيل الروائي ام المتخيل الصوري السينمائي المقتبس من الرواية ؟
جماليات المحكي الروائي والمحكي الفلمي
في البدء ان الجماليات التي توفرها الرواية للقارئ هي جماليات تعتمد على الزمن والمكان المفصل، الذي يساهم فيه الوصف الروائي المحكم والمعتمد على دراية مفصلة بفن الرواية مسندة ببلاغة لغوية عالية المستوى، ويعمل المؤلف هنا على استحضار كل ادواته المعرفية لكتابة عمله، والفعل الروائي هو فعل فردي في الواقع، بمعنى ان الرواية يكتبها شخص ما في ظل ظرف ما، استدعاه لهذه الكتابة، ظرف الكتابة يساهم بشكل كبير في نجاح هذه الرواية او فشلها، لذلك لا تأتي كل الروايات بذات المستوى، وبالتأكيد ليس هذا هو السبب الوحيد في ذلك .
اذن نحن امام متخيل فردي، يجسد على الورق، ويبقى تحديد جماليات هذا المتخيل من عدمه خاضعة لنوع القارئ الذي يقرأ الرواية، ورغم تفنن كاتب الرواية بوصف المكان ، الزمان ، الشخصيات ، حد الاسهاب احيانا محاولا اضفاء اكبر قدر من الجمالية على ما يكتبه ويصفه، الا ان الامر في الاخر يخضع لمزاج القارئ، فمثلما هناك من يحب البحر او القرية، او الثلوج ، او الصحارى، هناك بالتأكيد من لا يحبها، ونتيجة ثنائية الحب والكره هذه ، يختلف المتخيل، وبالتالي يختلف مستوى الاعجاب بهذه الرواية او تلك .
الامر مختلف في الفيلم لان المبنى الحكائي الفلمي له وسطيه التعبير المختلف، وهو الصورة، وبناء جماليات الفيلم هنا، لا تعتمد على صانع واحد فهناك فريق عمل متكامل، يعمل على انجاز النص الفلمي المتكامل واخراجه الى الجمهور بصيغته النهائية التي يشاهدها الجمهور .
الوسيط التعبيري الصورة، هي التي تحتوي كل الجماليات التي حاول صانعوا الفيلم رسمها بدقة، فعناصر اللغة السينمائية تعمل هنا مجتمعة لإظهار هذا المبنى الجمالي « عناصر اللغة السينمائية بتعريف بسيط هي كل ما يحتويه الكادر السينمائي « .
لذلك يحد الفيلم وبشكل كبير من سعة المتخيل الروائي، من خلال وضعه ضمن كادر من صور متسلسلة ومتحركة، تضع الزمان والمكان والشخصيات امام المتفرج، ولا مجال هنا لتخيل كل هذه الاشياء .
ولكن الا يخضع النص البصري الى تأويل، اي تأويل ما وراء النص الفلمي، بالتأكيد نعم، فالنص البصري يحمل دلائل ورسائل ورموز، يحرص صانعوا الفيلم على ايصالها للمشاهد، الامر الذي يعني بقاء المتخيل في هذا النص، رغم وجود الصورة، فالصورة الأيقونية لها دلالاتها، وان اختلفت من شخص لأخر، وبالتالي نحن امام متخيل جديد، غير المتخيل الذي توفره الرواية، وبالتالي فان جماليات المتخيل الروائي هي غير جماليات المتخيل الفلمي .
المتابع لردود افعال العديد من الروائيين على تحويل رواياتهم الى افلام، يلاحظ عدم الرضى الكبير على ذلك، والاسباب واضحة، فلا يمكن لأي نص بصري ان يضاهي الخيال الكبير الذي كتب الروائي روايته من خلاله .
الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذي حولت معظم رواياته الى افلام سينمائية ، بموافقته طبعا ، لم تحض معظم تلك الافلام برضاه، فهو يرى « زقاق المدق « غير زقاق المدق الذي وصفه في روايته، وشخصية « سي السيد « غير « سيد السيد « في ثلاثيته الشهيرة، بين قصرين، قصر الشوق، السكرية، رغم ان السينما المصرية ساهمت وبشكل كبير في الشهرة التي حققتها روايات محفوظ .
رواية الكاتب محمد شكري « الخبز الحافي « تلك الرواية التي اثارت وما زالت لغطا كبيرا ومنعت في معظم الدول العربي، لم يوافق محمد شكري على تحويلها الى فيلم ، رغم تقدم الكثير من الجهات الانتاجية السينمائية الاوربية بطلب تحويلها الى فيلم سينمائي ، خلال لقائي بالمخرج رشيد بالحاج، سألته عن كيفية موافقة الروائي محمد شكري على تحويل روايته الى فيلم، اجاب وافق بعد ان اشترط علي، ان يختار مواقع التصوير بنفسه، وبقيت معه والكلام لبلحاج، ستة اشهر هي مدة كتابة السيناريو لأنه اراد الاطلاع على السيناريو اولا بأول .
هذا ما يؤكد قلق الروائي من تحويل منجزه او نصه الروائي الى نص بصري، هذا القلق نابع من خوفه على فقدان المتخيل الجمالي الذي اجتهد في وضعه، والجمالي هنا ليس خاضع لتعريف الجمال السائد بالتأكيد .