بين نمطين في … مسرات سود

دراسة نقدية                                                   يوسف عبود جويعد  

الفضاء السردي الروائي لرواية (مسرات سود) للروائي علي حسن الفواز، تعتمد على نمطين من أنماط المذاهب السردية، الرواية الواقعية النقدية، والرواية الكابوسية، لكن في عملية تكوين الشكل والمضمون، تطلب الأمر أن يقوم الروائي بعملية مزج بين هذين النمطين، والسبب في ذلك وجود كل أركان وادوات وملامح الرواية الكابوسية داخل مبنى الرواية الواقعية النقدية، لما يحمل واقع الحياة التي عاشها وخاض غمارها بطل هذا النص حسان، من غرائبية وعجائبية وخيال قاسٍ صعب أسود مؤلم حزين خال من الرحمة والإنسانية، وبعيداً عن الحياة القويمة التي يحتاجها الإنسان في البلد ليعيش آمناً مطمئناً، بسبب ما تعرض له من تعسف وقمع وتعذيب فقد من خلاله رجولته حيث تم إخصائه وفقد فحولته أثناء التعذيب وفقد جزءاً كبيراً من ذاكرته، فعاش حياة مضببة متوجسة، هائماً خائفاً لم يشعر بلذة الحياة وطعم التواصل مع المجتمع، وصارت حياته بحثاً في دهاليز الذاكرة عن أماكن وسنوات ولحظات غائبة عن ذهنه، ومن المعروف أن الرواية الكابوسية تعتمد في مبناها المتخيل في تدوينها على الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة، وهذا ما حدث فعلاً لبطل الرواية حسان في واقع الحياة وليس المتخيل أي أن الحياة الواقعية انتقلت بشكل تلقائي من حياة طبيعية مسالمة إلى حياة مخيفة مضببة يسودها الرعب والحزن والقلق.

أعتمد الروائي في نقل الأحداث على المنولوج الداخلي والتداعيات النفسية والانكسارات والإحباطات التي كانت تسود سلوك بطل النص وطبيعته، الذي وجد في عملية الاعتقال والتعذيب ما يفوق طاقة تحمله، وحدث ذلك في زمن الزعيم الأبيض، كما يشير الروائي في ذلك إلى رمز رئيس السلطة وهو ما يوحي للمتلقي في زمن النظام الصدامي البائد، حيث تكثر العيون المراقبة والمترصدة لحركة الناس وكلامهم، وبالأخص المثقفون منهم، والذي يؤوَّل كلما يتحدثون به إلى كلمات ضد السلطة، فحسان تحدث عن العجز الجنسي، في المقهى، إلا أن ذلك فسر وبطريقة ظالمة إلى عجز السلطة السياسية الحاكمة، وهو الذي لا ينتمي لحزب أو أي حركة سياسية معارضة:

(علاقتي بالسجن كانت أكثر مفارقات لعبة الذاكرة معي، فقد كانت وظيفة قطع الذاكرة فاجعة، وكأنها أهم واجبات السجانين. الأحداث والوقائع تقول: إني كنت سجيناً وأن دخولي إلى السجن كان أشدُ غموضاً، فأنا لم أكن سياسياً، ولا حزبياً، ولا حتى ثائراً وكل ما كنت أعرفه هو الجنس، والبحث عن لذائذه، وشياطينه، ولم أكن أتصور يوماً بأن ذلك سيقودني إلى السجن، وللاتهام بخيانات كثيرة، لا أعرف كيف أرفضها أو أقبلها..) ص 5

والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأملية ومتابعة متأنية من أجل الوقوف على ملامحها الرمزية والفكرية والسياسية، وهي اليد الثالثة التي كان يمتلكها حسان والتي كانت محط خوف وقلق السلطة، وتدخل ضمن الكثير من المسارات السردية، فهي أحياناً الفكر الرافض لظلم السلطة، وأحياناً هي الجنس الذي هو واحد من الأسرار المهمة التي تبقي الإنسان ملتصقاً بحياته وسعيداً بها، كونه يمتلك رجولته وقادراً على الإتيان بما يريده من خلال تلك الرغبة اللذيذة المتصلة فيه، وفقدانها يعني فقدان الرجولة والفحولة، وهي رمز كبير لفقدان السلطة لرجولتها وفحولتها، بسبب عجزها عن تحقيق العدالة والمساواة، وكذلك هي حياة المثقف وأفكاره، إذ ضمن الروائي العديد من المقولات لكتاب كبار داخل متن النص السردي، وكذلك استعرض بعض الروايات العالمية التي لها صلة واضحة بمضمون وحركة الأحداث داخل متن النص الروائي. وهكذا يسير المبنى السردي وتتدفق الأحداث بشكل محتدم وتصاعدي، فنعيش تلك التداعيات وما أصاب حسان من ظلم وجور:

(حيث يجد نفسه وحيداً، ذليلاً، منكسراً، ليس أمامه سوى أن يبحث في ذاكرة الكلام عن طلاسمه القديمة، وعن أوهامه التي ظل يصدق حكايتها عن يده الثالثة، اليد السياسية، أو المجنونة أو المعارضة، أو التي فقدت جموحها بعد ليالي السجن التي لا يريد أن يتذكرها بعد أن حولها السجان (مهاوي) إلى ليال للهذيان، وحول يده إلى اسفنجة غاطسة بالرمل المسكون بالأشباح والعطش…)ص 21

ونمضي قدماً في متابعة الأحداث التي بدأت تتطور، وازداد التلاصق والتناوب بين عالمي الواقعية النقدية والكابوسية، لنكتشف حياة حسان الذي لم يعِر اهتماماً لحياته الاجتماعية بين أخوانه الذين يتصارعون فيما بينهم من أجل الحصول على الإرث، وعاش في عالمه الأسود والخوف يغلف حياته حتى وهو خارج أسوار السجن، ويعيش ذكرياته المؤلمة في معتقل التعذيب، وما فعل به مهاوي الرجل الذي كلف بتعذيبه والذي أخصاه ومحا ذاكرته، وهنا يقدم لنا الروائي ملامح شخصية مهاوي وصفاته وحياته الاجتماعية، فهو يعاني من عجز جنسي، وأنه لا يستطيع الإتيان بزوجته، الأمر الذي جعله مصدر الاستهزاء والسخرية من زوجته، التي كانت تجبره على ممارسة العملية الجنسية رغم فقدان فحولته، بعدها ننتقل إلى تفاصيل تخص حياة مهاوي، حيث أن أباه ماحي هرب من الجنوب بعد شجار حاد مع الشيخ وتطوع في الجيش، ثم اخذ يرتاد النوادي الليلية وأحب بلابل وتزوجها، رغم أنها عاهرة وتمارس الجنس مع الزبائن، فحملت وأنجبت طفلاً أسماه مهاوي، وعاش مهاوي وسط هذه الأجواء واقترب من السلطة ليكون احد رجالها المكلفين بتعذيب المعتقلين:

(ماذا تفعل يا مهاوي؟

صوت زوجته الزاعق وهي تتحسس عطالته، والعرق الذي ينز متصبباً من جسده العاري، ومن وجهه الشاحب ومن يديه المرتعشتين..

لم يباغت بجملتها الناهرة  لكن غيظه بدا أكثر شراهة وهو يرتعش أمامها مخذولاً بهزيمته، فبالرغم من كل شبقه المفتعل وصوته الفاضح، ظل مسكوناً بإحساس دام بالخيبة من العطب، وغدا جسده الملحاح والمعروق يضطرب هلعاً من الخوف والإذلال، فعدم قدرته على الإتيان توغر صدره حقداً وغضباً لا حدود لهما، وتطلق كل غوائل الشرّ الطاعن في روحه..) ص  50

وهكذا نكتشف الحياة الغريبة الموغلة بالعهر والفساد التي أهلته ليكون واحداً من رجال السلطة المكلفين بالقيام بمهمة التعذيب الظالم، ويمضي حسان في مهمة إدارة دفة الأحداث ليجد أن الحياة مغلقة أمامه وأنه فقد سر السعادة والحيوية والنشاط لأن الفحولة والرجولة أمر ارتبط بحيوية الإنسان ونشاطه.

رواية (مسرات سود) للروائي علي حسن الفواز، رؤية فنية متطورة في عالم الرواية لأنها قدمت الواقعية النقدية برؤية كابوسية حديثة، وفضحت أزلام النظام الصدامي وجور وقسوة وظلم المعتقلات والسجون فيها، وقدمت شخصية دفع ثمناً كبيراً وهو يتعرض لظلم لا مبرر له.

من إصدارات دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والسياحة والآثار لعام 2020

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة