مقداد مسعود
تنوعتْ طاقة حسين عبد اللطيف، في كتابة القصيدة الحداثية والألمام بالفولكلور والاشتغال على ذاكرة البصرة شعريا. كان – ما أقسى استعمال هذا الفعل الناقص مع الذين أمضينا سنواتنا معهم؟! – كان حسين موجها للشباب يأخذ بيدهم، ويشخّص مكمن الموهبة، فيقول لهذا اترك الشعر، واشتغل على الترجمة، ويقل لذاك أنت أفضل في القصة القصيرة،ويقول للثالث اشتغل بكل تعدديتك فأنت ماهر في التوازنات كالأواني المستطرقة.تعرفتُ إلى حسين في صيف 1974حيث توجهتُ مع أستاذي كاظم الاحمدي، الذي كان يدرسنا اللغة العربية في ثانوية الجاحظ إلى بيت قرب اتحادنا الآن وزرنا الإعلامي والقاص عبد الحسين الغراوي، وكان حسين عبد اللطيف، يجلس تحت نصف إضاءة ويتصفح كتابا، في بيت الغراوي، ثم تطورت علاقتي اجتماعيا وثقافيا وصرتُ ألتقيه بشكل دائم في المقاهي وفي مقر اتحادنا في محلة العزيزة.في هذا الحيز الإعلامي ونحن نتشارك في مربد حسين عبد اللطيف ستكون قراءتي غير موضوعية، استعيد ما أحببته ُ شخصيا من قصائده، أحببتها أكثر من سواها، ربما رأيتُ وجهي في مراياها أو رأيت ُ حقبة عشتها بشكل بهي نوعا ما . كيف لي نسيان هذا الجمان الشعري النضيد؟ :
(أنت لم تُخرج من الإبرة خيطا
أنت لم تبرح مكانك
أمس
سافرت
ولم ترحل!
ولم تبق َ
ولم تلو عنانك)
(*)
شعريا آثر حسين عبد الطيف، أن يكون اشتغاله ضمن بقعة محددة، لكنها عميقة.يستوقفني في قصائده، اقتناصه للخيبة والخواء، وحين يشعرنها تستحيل دفئا، والسؤال الشعري الذي يستلمه القارىء الفطن: مَن المتكلم في قصائد حسين عبد اللطيف؟ هل هو وحده؟ أم هو يتكلمنا بالنيابة عنا، يتكلم إحباطنا وخيباتنا
هكذا يتكلمنا بصوت جمعي في قصيدة (دون جدوى):
(أطبقنا الأيدي
وفتحنا الأيدي
ما مِن شيء في الأيدي
قادتنا الريح
إلى الريح)
ليس الفشل بل هي الخيبة ذاتها بتسمية أخرى، وهذه الخيبة هي نتاج يقظة الوعي بما يجري وسيشعرنها الشاعر، في إحدى قصائده، إذ يتمازجان الحلم الخفيض النبرة وخواء اليقظة:
(شيئا
فشيئا
أفتح الأجفان
لم ألمح البستان
لم ألمح الحارس والسكران
لم المح الفضة في الألوان
…………………
لمحتُ نفسي آخر الساحة)
والحالة نفسها تصادفنا في إحدى قصائده، ونحن نلامس الانشطار بين صحوة الحي المفرد وشراكة الموتى:
(وأصحو
على تمتماتي
تجيء
مع الميتين
وهم يعقدون
ولائمهم تحت جنح الظلام
وهم يسحبون الخيول
إلى ربوة في المنام)
وحين تطوقه الخيبة، يصرخها شعريا:
(آه أيتها الغمغمة
كم لي
في دمي
من أفاعيك
من خضرمة)
ولما يتكاثف الظلام المدجج حول حسين عبد اللطيف، يستشفع باليوتوبيا ويناديها لتهب لنجدته ونجدتنا أجمعين، لتنظف حياتنا من الهواء المستعمل ونجاسات الافتراضي التقني التي صيرتنا حشرات في نسيج العنكبوت، هاهو حسين ينشد المنادي لنرفل بلحظة خضراء من غير سوء:
(أينها؟
يا نوح تلك السفينة!
إننا في انتظار غد ٍ
وأخضرار الضحى
هابطاً مِن عل ٍ
في سكينة
كنت ُ نفسي على موعد منه
أقرب من طرفة ٍ
وامتداد يد ٍ
اذ تمس جبينه)
وما يقترضه الشاعر العراقي البصري حسين عبد اللطيف من الشاعر الألماني ريلكة، لايصح أن نراه عتبة نصية عاطلة، فالمقبوس من ريلكة،يشغّل تراسلا مرآويا بين شاعرين، وهذا التراسل من مستويين :
*غادرنا حسين عبد اللطيف ولم يملك بيتاً لعائلته
*عاش حسين مكابدا من شعوره بالوحدة، وها هو المقبوس بين أياديكم:
(مَن لا يبني بيتا الآن
لن يبني بيتاً فيما بعد
مَن هو وحيد الآن،
هكذا
طويلا
سيبقى) ..
هذه الحالة الشعرية سنراها في خطوة شعرية أخرى، من خلال تحاور حسين عبد اللطيف مع حسين عبد اللطيف يشبهه كل الشبه، حيث الثاني/ الصورة، يرشق الأول / الأصل بالأسئلة التالية:
(مِن أين وإلى أين؟
أو تملك أرضا ً
للسكنى؟
شجراً تستثمره
تتمرأى في قاماته
أو تقضم تفاحاته؟)
وحسين عبد اللطيف حتى في صوته المفرد هو بصيغة جمع كما في قوله
(في بلدة آمالي
لا توجد
إطلاقا
شجرة)
وكذلك في قوله:
(أدور حول ظلي
حول
ظلي
لا ألحق الليل ولا النهار)
يواصل حسين عبد اللطيف التجوال، ثم يفضّل الوقوف، يقف يسحب نفسا عميقا، يتكىء على ظل بيت في زقاق من أزقة البصرة القديمة، ربما خلف مقهى (أم السباع) أو على مقربة ٍ من (جبل خمّاس)، وينشدنا أساه الذي يسحله خلفه كالخطايا
(لا وجها أملكه..
لا أنتظر
منفيّ أتغرب في المدن
أتوزع مثل شظايا العبوه)
وحين يستعيد الشاعر وجهه، فتكون الاستعادة بعيدا عن صخب المدينة التي غدت لا تشبه المدن ولا تتذكر بدايتها، وهكذا تكون الاستعادة في مجاز اللغة الهادئة بالتجاور مع هدوء الأقاصي:
(أرياف ٌ تنهض من وجهي
وصباحات
تستقبلني
أرغب
في أن أصبح
شجرة)
وفي قصيدة (حدائق) يخادعنا عبد اللطيف مخادعة عنوانية
(في جسدي للطيور
حدائق من جراح
أهبُ مطعونا إلى بابي
أفتحه للرياح
زائرتي)
المخادعة هي بنوعية الحدائق، فحدائق الشاعر حسين عبد اللطيف ليست للنزهة، ربما تذكرني بالروائي نيكوس كزنتزاكيس في كتابه (حديقة الصخور) أو القاص والروائي الايطالي دينوبوزاتي في قصته القصيرة (الحديقة ذات الحدبات) أما الوجه المحلوم بيقظة الماء بحسب المعلّم باشلار، الوجه المترع بالبهجة، سيطالعنا وهو يحذر نفسه من الجلوس، لأن شروط الجلوس الصحيح غير متوفرة، أن كائنية الشاعر عبد اللطيف هنا، كأنها من شخصيات روايات كافكا
(إياك.. يا نفسي
إياك..أن تجلسي.. يانفسي
أراه مثقوبا هو الكرسي)
يبقى حسين عبد اللطيف واقفا وهو يصل إلى آخر الأرض، يقولها بثقة المطمئن، يهبنا درسا بالمجان، يدرّبنا على بسالة مواجهة الزائر الأخير البغيض:
(سعيدٌ أنا الآن، موتي مريح
…………………..
أوصدوا الأبواب
الوقت قارب…
العربة أوشكت)