محمد زكي ابراهيم
يرى البعض أن نزوع الشبان للهجرة من الريف، وإعلانهم القطيعة معه، عائد إلى أن الاستبداد المجتمعي يتجلى بأشد صوره في القرية. ليس بسبب العلاقات الصارمة داخل الأسرة، أو بين الأقارب، بل بسبب الحميمية المفرطة بين الأهل والجيران، والمودة الزائدة بينهم. فحينما يغادر الفرد قريته، ويختفي في زحام المدينة يمتلك زمام نفسه، ويمارس حياته وفق ما يشتهي دون أن يتدخل أحد. وحينها يشعر أنه حر يصنع ما يشاء، ويفكر كيفما يشاء بعيداً عن العيون. وهذه مفارقة جديرة بالتأمل. فالحنان الذي يفوق الحد ينقلب إلى تعاسة. والحرص الشديد يتحول إلى شقاء، وهكذا.
ما ينطبق على هذه الرؤية، التي لم يسلم منها أحد من الأجيال السابقة في بلادنا أو البلاد المجاورة، ينطبق على العالم ككل. فالهجرة إلى دول الغرب لم تأت بسبب الرغبة في الحصول على الثروة، بل بسبب الهوس بالحرية. مثلما تشكل الثقافة المتوارثة أمام الفرد عائقاً، يحد من طموحاته، ويتولى الرقابة على حركته، ويشده إلى مجتمعه الأول.
تقدم القرية مجتمعاً محافظا ، لا يستطيع التخلي عن تقاليده المتوارثة، ولا التضحية بقيمه الضاربة في القدم. أما المدينة فتقوم من جانبها بجذب أولئك المختلفين، الساخطين، وتحتضنهم في أزقتها وأحيائها. فهي – أي المدينة – تجمع سكاني لا تربطه رابطة، ولا تجمعه وشيجة. وليس ثمة قيود واضحة فيه. كذلك فإن الحضارة الغربية تضطلع بذات الدور أمام المهاجرين القادمين من مجتمعات ذات ثقافات تقليدية.
إن أساس المشكلة أن الاستبداد الشرقي، بكافة أشكاله الأسرية، والقبائلية، والرسمية، لا يؤمن بفكرة القبول بالآخر، فيصادر كل ما هو مختلف عنه، ولا يسمح إلا بما يتوافق مع تفكيره. ومن هنا نشأت الرقابة على الكتب، والصحف، والسينما، والمسرح. فليس بوسع أحد أن يقرأ ما يخالف السلطة، أو يشاهد ما يتقاطع مع نظرتها للحياة. وليس بإمكان أي ناثر أو شاعر أو فنان أن ينتج إلا ما يريده منه الآخرون. وفي كثير من الأحيان، لا يسمح له بالصمت أيضاً. فالسكوت يعني المعارضة أيضاً.
لكن الواقع أن رفع الرقابة لم يغير من طريقة التفكير السائدة، ولم يتح للعقل الشرقي أن يتحرر من أوهامه. ذلك أن المشكلة متجذرة في حياته، ضاربة بأطنابها في أعماق نفسه.
إن الاعتراف بحق أي طرف في التعبير عن ميوله، يعني بشكل أو بآخر، الاعتراف بوجوده في هذا العالم. أما رفضها، أو مصادرتها، فيعني الحكم عليه بالموت أو الإعدام. وهذا هو ما حدث على أرض الواقع بالفعل في أكثر من بلد، وفي أكثر من عصر.
إن ادعاء امتلاك الحقيقة الواحدة، الذي برع فيه المشارقة، ومنهم العرب، كان أحد الأسباب التي جعلتهم في مؤخرة الصفوف، لقرون عديدة. وسيظل كذلك حتى ينتقل تفكيرهم من حميمية الريف إلى صخب المدينة، ومن الاستبداد العائلي إلى وهج الحرية.