تركي كاظم جودة..
سلام مكي
من مفارقات الموت، أنه يمثل حافزا على استحضار الذاكرة وتأهيل الأفكار المغيبة عنوة، وإعادة ترميم ما خربه الزمن. فالموت، عندما يطرق باب المبدع، فكأنه يمسح الغبار عن ذاكرة معطوبة، تلك الذاكرة الجمعية التي حوّلت المثقف والكاتب من شعلة تنير الطريق نحو التنوير والفكر إلى كائن مغيّب، لا حول له ولا قوة. فعندما داهم الموت، الفقيد تركي كاظم جودة، الشاعر والكاتب والانسان، لم يغيبه عن أهله ومحبيه، كما يتصور، بل كان دافعا لولادة جديدة، ولادة نقلت الفقيد من الحياة العابرة الى دنيا الخلود. تركي كاظم جودة، لم يمت، بل قرر أن يعيش مدى الدهر كصورة راسخة في أذهان أهله وزملائه الذين سيفتقدون مكانه الذي طالما حوّله إلى مدرسة صامتة. الفقيد، كان بحق مدرسة، قوامها العطاء اللا محدود. حياته التي قضاها بين الحرف والكلم، لم تكن مجرد حياة، بل هي دروس وعبر لكل من عرفه. ذلك الهدوء الغريب الذي يهيمن على حياته، والعطاء الصامت، لا شك أنه سيبقى راسخا في ذاكرة كل من عرفه. ومن أجمل من حياة يقضيها المرء مصححا هفوات الآخرين، محولا النتوءات إلى تلال جميلة، والحروف إلى ألوان زاهية تغري القارئ بها، وتحولها إلى لوحة جميلة. هكذا، كانت حياة الفقيد التي قضاها في بيته الثاني ” الصباح الجديد” تلك الصحيفة التي احتضنته واحتضنها إلى آخر يوم في حياته. لقد برهن الفقيد على أنه غير قادر على العيش دون أن يكون بين أكوام الحروف والكلمات، لم يستطع تحمل أن يكون بعيدا عن معشوقته الأثيرة” الكتابة” ليرحل بصمت كما عاش، تاركا خلفه إرثا وذكرى طيبة لا يمكن أن تمحى بسهولة.
اشتغالاته
رغم أن المعروف عن الفقيد أنه مصحح لغوي، وخبير في اللغة العربية، إلا أنه شاعر مجد، يكتب للأطفال، وهو من الرعيل الأول، لهذا الفن الجميل والمهم والمغيب في نفس الوقت. فقد كتب نصوصا مهمة، بقيت راسخة في ذاكرة الأجيال. ومما كتب:
ارجوحتي مكانها
ما بين فرعي شجرة
وعاليا تأخذني
حيث الغصون النظرة
اشاهد الانهار
و الروض و الاطيار
و اجمل الازهار
و في طريق عودتي
تقول لي صديقتي:
تعال يا نزار
نبارك النهار
بفرحة الصغار
ارجوحتي رمز الفرح
ألوانها قوس قزح
إنها روح لا يمكن لأحد أن يمتلكها، سوى من يسعى للتحليق عاليا في السماء، سماء الحرية والابداع التي كانت شاغل الفقيد وشاغله. فبين الأعالي والأنهار، والصديقة، ثمة أمل يدعو الشاعر الى مزيد من النظر الى الغد، على أنه أجمل من الأمس وأجمل من اليوم. تلك الروح التي يحملها تركي كاظم جودة، كانت تجري عكس تيار الزمن، فهو لم يعبأ بشيخوخته التي لم تكن يوما عائقا أمام التدفق الابداعي والخوض في غمار الكتابة والتصحيح. ومن أجمل من حياة، تقضى بين الكتب والحرف؟
الطفولة، لم تغب عن تركي، رغم تقدمه بالعمر، وانشغاله في أمور الحياة. فهو ولغاية آخر أيامه، كان يكتب للأطفال، محاولة منه في استرداد شيء من تلك المرحلة المفقودة من حياة العراقيين.
كما أنجز تركي كتابا مهما عن حياة الشاعر عبد المحسن الكاظمي بعنوان: عبد المحسن الكاظمي.. شاعر الارتجال. الذي قال عنه الكاتب فؤاد عبد الرزاق الدجيلي: أعد الكتاب من أجود الكتب الأدبية التي تفتخر به المكتبة العراقية. إن الحديث عن إنسان معطاء، مناضل، أفنى حياته كلها، في تقديم الأفضل للمجتمع، والسعي نحو بث الجمال والحرية للآخر، لا يمكن أن يكون في مقام محدود، بل هو حديث طويل، وشاق، يحتاج إلى جهد يمكنه ان يتسع لنفس عدد السنين التي قضاها تركي، متنقلا بين العوالم الجميلة.
مواقف
في ذروة استهداف الصحفي، ومحاربته في حياته ورزقه، لم يصمت تركي، رغم التحديات التي توجهه، من قبل الجميع. فقد استنكر ورفض الممارسات التي ترتكب بحق الصحفيين، واستهدافهم المتكرر من قبل بعض الجهات المعروفة. ونعيد نشر رأي له، نشر قبل سنوات في جريدة المدى، بمناسبة عيد الصحافة العراقية.
اعتقد إن أي إنسان لديه ذرة من ضمير سوف يشجب العنف ضد الصحفيين لان عمل الصحفي يقتصر على قول الحقيقة ومن المفروض ان يحترم ويقدر عمله. وأنا اعتقد ان الزمن سوف يحل القضايا التي تتعلق بحقوق الصحفيين لان الخيرين موجودون دائما. لقد ظهرت عدة نقابات بعد التغيير ومن الواجب أن تكون هنالك نقابة واحدة تضم كل المجموعات، وهذا التعدد أصبح يشبه التكتلات.. هنا أطلق تركي نبوءة مفادها أن مشاكل الصحفيين ستحل، بطريقة من الطرق، لكن السؤال الذي يبرز هنا: متى سيتحقق ذلك؟ ولم ينس الكاتب والصحفي حسن العاني، موقف تركي في هدم فكرة الطائفية الدخيلة على مجتمعنا، عبر ذكره قيام تركي بعقد مصاهرة مع الطرف المذهب الآخر، في دعوة منه صادقة لنبذ الطائفية والابتعاد عن بث الخلافات والاحقاد. فموقف تركي ومواقف كتاب آخرين، في الانفتاح نحو الآخر المختلف عقائديا والسعي نحو مزيد من التلاقح والتشابك بين الطوائف، هو موقف وطني يستحق الثناء عليه.
شيء من حياته
شاعر ومؤلف عراقي ولد 1936 في النجف العراق ونشا به دخل المدرسة الابتدائية فالمتوسطة وتركها ليتفرغ للعمل الادبي درس اللغة وادابها دراسات ذاتية بدأت تجربته كتابة في اواسط الخمسينات متأثرا بمحيط النجفي الغني بالآداب والعلوم انتقل الي بغداد مارس العمل الصحفي محررا في عدة الصحف وتقلب ببعض الوظائف الحكومية الي ان حال التقاعد عام 1987 ونشر الكثير من شعرة في الصحف العراقة والعربية.