لاسباب موضوعية وذاتية تم تناول العديد من تجلياتها من قبل المهتمين بمشروع الدولة الحديثة في العراق؛ لم يوفق اهل العراق من امتلاك الدولة ومؤسساتها المقتدرة وتشريعاتها العادلة. ولأجل البدء في تلمس طريقنا للاجابة على سؤال مقال اليوم، لا مناص من الاتفاق على ان ظهور أحد ابشع الانظمة التوتاليتارية لدينا ومن ثم استمراره لاربعة عقود لم ينتهي فيها الا عبر المشرط الخارجي؛ لم يكن محظ صدفة. لذلك نحتاج الى موقف مشترك وواضح ومسؤول من ذلك الماضي، كي نتمكن من شق طريقنا بثقة لتأسيس نواة دولة القانون المستقبلية. عندما نعيد قراءة ما جرى من خطوات وقرارات عشوائية ومتسرعة وبعيدة عن المسؤولية والحكمة، في اعادة بناء مؤسسات الدولة بعد زوال النظام المباد؛ سنجدها غالبا قد استعانت بملاكات وعناصر من نفس منظومة الحكم الشمولي السابق، وبسبب من ضعف وهشاشة موقف هذه الشريحة، اضطرت الى اكتساب استعدادات ومواهب اكثر بؤسا مما كانت عليه قبل “التغيير”، ومع التورم السرطاني والترهل الهائل لاعداد المنتسبين لمؤسسات السلطة الجديدة، شهد البلد انفلاتاً امنياً وضياعاً لسلطة القانون لم تنجح جميع المحاولات الترقيعية في مواجهة تداعياته المدمرة.
ان نقطة الشروع في ذلك هي من اختصاص أصحاب الشأن الاول في مهمة (سيادة القانون)، أي السلطة القضائية ونوع الملاكات التي تؤسس لمثل هذه النواة؛ أي نوع من القضاة غير التقليدين من ذوي الكفاءة والنزاهة، وممن يمتلكون المواهب والاستعداد لخوض حرب ضروس ضد قوى الاجرام والفساد من دون تمييز على اساس “أولاد الست و اولاد الجارية”. نواة تكون مدعومة بنواة اخرى في الاجهزة الامنية، وبنحو خاص من فرقة خاصة تابعة لجهاز مكافحة الارهاب، والشرطة المجتمعية والشرطة القضائية بعد تفعيلها وتزويدها بالوسائل والادوات والخبرات اللازمة، والكوادر المؤهلة للنهوض بمثل هذه المهمات الاستثنائية والضاربة. انها مهمة صعبة وعسيرة، وكل من يعرف حجم التخادم والتواطؤ بين حيتان الطبقة السياسية وجمهور الحبربش المحيط بها وعصابات الاجرام والارهاب المهيمنة على تفاصيل حياة الدولة والمجتمع؛ يدرك حجم الملفات والصعاب امام مثل هذه النواة التي سيقع على عاتقها ان تكون رأس رمح للزحزحات الفعلية في المشهد الراكد.
مثل هذا المشروع التأسيسي لن يوفق في انجاز مهماته الواسعة والمعقدة، من دون حشد دعم شعبي واسع لتوجهاته، وهذا لن يحصل من دون وجود نواة فاعلة له في الحقل الاشد خطورة وتأثيرا في عالم اليوم؛ الا وهو الاعلام وادواته ووسائله واشكاله المتعددة. ولن نبالغ ان قلنا بان مهمة تأسيس النواة في هذا الحقل ستواجه صعوبات اعظم من سابقاتها، لما تم تسخيره من امكانات في هذا المجال من قبل القوى التي تتنافر مصالحها ووجود مؤسسات دولة حديثة تقوم بفرض سلطة القانون. كل من بقى متماسكاً ومنسجماً وما تحمله مهنة الاعلام من رسالة وقيم راقية؛ يدرك حجم الخراب الذي ورثته هذه المهنة زمن النظام المباد والمديات المتعاظمة التي وصل لها مع من تلقف منحة التعددية والحقوق والحريات بعد زواله. لذلك ستكون ولادة نواة الاعلام الجديد والمسؤول والجسور وسط هذه البيئة الملتبسة هي الاشد عسراً، لكن عبر التواصل وتبادل الخبرة والتضامن مع مثيلاتها في الحقول الاخرى يمكنها تجاوز هذه التحديات، ومع تلاقي هذه الروافد السليمة بوسائلها واهدافها المشتركة، نكون قد وضعنا الاساس المكين لما فرطنا به لعقود مريرة، أي سيادة القانون ودولته الحديثة..
جمال جصاني