عبد الهادي والي
عشر قصص قصيرة ، هي بالتوالي : ( شارلي شابلن يموتُ وحده / رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام / إعلان وفاة ليلى / حقيبة الإرهابي ذي البدلة الأنيقة / كلكامش يغني لسليمة مراد / وحدها يدُ شهرزاد باسقة / كاكا عبد الحليم حافظ / بتهوفن يبيعُ أسطوانات الغاز / سيجارة الضابط العراقي / حوار في مرآة الذات ) . تضمنتها مجموعة القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) الجديدة ، الموسومة : ( مسلة الأحزان السومرية ) .
( شارلي شابلن يموت وحده ) القصة الأولى في المجموعة ، تعكسُ وعياً متقدماً ، إذ يحتلُ فيها النبل والتعاطف الإنساني مرتبة عليا ، وهي ترسم ملامحَ صبي منغولي ، بيده يحملُ ستلايت ، وجهاز تحكم من بعيد . يذهب بهما باتجاه مصلح للأجهزة الكهربائية . فيتعاطف معهُ المصلح ، ويقومُ بإصلاح جهازه وشراء جهاز تحكم جديد له ، فيطير الصبي « المنغولي « من الفرح ، وإذ يسيرُ بجهازه ، تحدثُ المفارقة القوية في القصة ، التي تهز فينا طاقة العاطفة والتعاطف مع البراءة ، حين يغتالها التسرع والغضب الأعمى ، والغليان الذي يطيحُ بالعقل . وفي ذروة الانفجار ، وتشظي الأجساد والأشلاء ، الذي حدث بسبب فعل إرهابي ، يستمرُ البحثُ عن المسبب لهذا الفعل البشع ، وحين يلمحون الصبي المنغولي ، وبيده جهاز تحكم الستلايت ، يظنونه هو الفاعل ، فتنهالُ عليه الضربات والرفسات التي تودي بحياته ، ليروح ضحية بريئة ، وهنا يسدلُ القاص المبدع ( علي السباعي ) الستار على لوحته ، بهذه الضربة الفنية الباهرة ، وهو يثير لواعجنا وتعاطفنا مع البراءة ، حين تغتالُ سهواً وغيلة ! وقد حاك القاص قصته بأسلوبٍ مقتدر ، يميلُ إلى الاختصار في العبارة ، والتلميح والابتعاد عن الحشو في الأسلوب ، الذي هو آفة القصة القصيرة .
( رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام ) القصة التالية في المجموعة ، هي سياحة فكرية تعجُ بالمشاهدات ، حول نُصب تذكارية ، في دار السلام ، لفنانين منهم جواد سليم ، وخالد الرحال / مع مزجٍ مدهش لمقولاتٍ ، تؤكد حكمة الأهل وما يختزنونهُ من خبرات وتجارب حياتية ، وتصويرٌ لتقلبات الجو ، المطر المنهمر ، وصحو الشمس ، وحركة المارة وتزاحمهم في ساحة الطيران ، وهاجسهم الدائم من أنفلات عبوة ناسفة ، أو تفجير أرهابي لجسده العفن . يقول ( مارسيل بروست ) : (( أننا لن نأمل عزاءاً ، عما يعتور العالم من فوضى ، وشذوذ وعقم ، وقهر ، إلا في الخلق الفني )) . وإذ ينقل القاص ( علي السباعي ) تلك التفاصيل الدقيقة ، وبلغة فنية ، بالغة العمق والنفاذ والتأثير ، وهو يتابع البطل الذي يركب سيارة الكيا ، لتقله إلى ساحة النهضة ، وهو يدسُ كيسه المعبأ بالكتب ، قرب مقعد السائق ، وحين تحدث الجلبة ، ويرتفع صوتٌ عالٍ بأن هناك عبوة ناسفة ، مخبوءة قرب مقعد السائق في سيارة الكيا ، وفي ذروة الهلع والفوضى التي تعمُ المكان ، واعتراف شخصية القصة الرئيسية ، بان تلك العبوة الناسفة ، لم تكن إلا كيس كتب الذي وضعه قرب المقعد ، تنهالُ عليه الصفعات والركلات من كلَّ جانب ولا تزال أصواتهم تقرعُ أذنيه بهتاف : إرهابي . . إرهابي !! إن زج عنصر المفارقة في القصة ، وبقدرة فنية عالية ، تؤكد سيطرة القاص على أدواته وتقنياته ، وهو يوظفها بأحكام ، ليثير فينا المدهش والمشوق . ويظل الموت ُ والتوجس منه ، يظلل كل الأجواء المحيطة بالناس ، فالإرهاب يتمدد في المدن وينمو ، تغذيه أيدٍ شيطانية ، لا تريد لهذا البلد ، أن ينعمَ بالأمن والاستقرار . لقد أولى الناقد الكبير ( تيسن ) رائد المذهب البيئي في ميدان النقد الأدبي ، أهمية بالغة لدور البيئة الاجتماعية ، في تشكيل المضامين والأفكار الكامنة ، في مجال الفن ، وقد آمن بأن العمل الأدبي والفني ، يتجدد بمجموعة من الملابسات الاجتماعية ، التي تمثلها الحالة العامة للتفكير والعادات المحيطة ، وقد أيدهُ في هذا المنحى ( بونالد ) في كيفية تفسير الأعمال الفنية ، فيرى : (( إن الأدب هو تعبيرٌ عن حياة المجتمع )) .
في قصة ( إعلان وفاة ليلى ) : هي أمتدادٌ آخر لتصوير حالة الفوضى والدمار والفقدان ، التي حلت بالناس ، جراء معاناتهم الدائمة ، يبرز ذلك من خلال أحداث القصة ، التي تحكي سيرة إمرأة ، فقدت ولدها بإنفجار عبوة ناسفة ، عبر تسلسل أحداث متتابعة ، يزج بها القاص ليكتمل مشهد الحدث ، ويتوهج في نهايته المعبرة ، التي تفضح البشاعة والتخلف ، بأسلوبٍ ينأى عن المباشرة ، ويحلق في أجواء تقتربُ من عوالم الشعر المبهر ، المعبر عن المعنى العميق للحدث : (( سماءُ الزوراء ممتدة أمامي ، صافية ، صار الحرُ يطبقُ براثنه الملتهبة علينا ، لم يتبق لليلى سوى ذكريات الماضي . دمدمت بما قالهُ جواد سليم ذات لحظة تأمل . رمقتني بنظرة متفحصة ، وأجهشت بالبكاء . تلألأت دموعها في عينيها المغمستين بضوء النيونات . تابعتْ حديثها بصوتٍ واثق ، وهي توزع نظراتها المليئة بالدموع عليّ : هرعتُ إلى محله ، ومعي ثلاث نسوة من جيراني ، وحفيدي الذي أحمله على ذراعي ، ذي الثلاث سنوات . كان الوقتُ بين العصر والغروب . وصلنا وما أن أقتربنا من عتبة الدكان ، دوى صوتُ أنفجار هائل !! )) . لقد قصدت دكان ولدها ، في محله ، بعد ورود أتصال بها من أبنها ، يطالبها بالقدوم إلى المحل ، لكن المتحدث كان شخصاً غريباً . قال لها بعصبية : تعالي إلى الدكان !!
في قصة ( حقيبة الأرهابي ذي البدلة الأنيقة ) تحتشد بمفارقة شديدة ، يقودنا فيها القاص ، بدربة فنان مقتدر ، ليصور من خلالها رجلاً ببدلةٍ أنيقة ، وبقربه حقيبة ، وبيده هاتف نقال . يتوهم الآخرون بأن الحقيبة لابدَّ إنها تكتنز بمالٍ وفير . يتظاهر الرجل بأنشغاله بالمهاتفه ، مع الطرف الآخر ، فاسحاً المجال للمغفل الذي يباغت الرجل ، ويسرقها ، ظاناً إنها تحوي مالاً وفيراً ، إنها مصيدة معدة من قبل الأرهابي ، صاحب الحقيبة ، وحين يلوذ السارق راكضاً بكنزه بين حشد الناس في الباب الشرقي ببغداد ، تنفجر الحقيبة ، لتتطاير الأشلاء والرؤوس ، في كل أتجاه . إن عنصر المفارقة المدهش يشدنا إلى القصة ، لننغمر بجوها وحبكتها المتقنة .
في قصة ( كلكامش يغني لسليمة مراد ) سياحةٌ هي الأخرى في شوارع بغداد ، ينعطفُ فيها بطل القصة ، بأتجاه شارع أبي نؤاس ، متوجهاً صوبَ الكرادة ، مترنماً بمقطعٍ من أغاني سليمة مراد ، ليقترب من قمامة ، تحوم حولها مجموعة من الكلاب ، يحاولُ أن يلتقط حجراً ليبعدها ، ولما لم يجد حجراً ، أخذ يعوي مع الكلاب ، في محاولة مستحيلة للخلاص !
في قصة ( كاكا عبد الحليم حافظ ) من أمتع قصص المجموعة ، يشوبها الألم والحسرة ، وهي سيرة طويلة ، حافلة بالمعاناة والتذكر ، والتوثيق لحياة المطرب عبد الحليم حافظ ، من خلال سردٍ مدهش ووافٍ ، يمر عبر تتابع صور ولقطات ، وأجواء طبيعية متقلبة ، في مدينة السليمانية الكردية ، مسجلة كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة ، عن حياة عبد الحليم ، تأريخ مرضه ، وأسماء أغانية ، والمستشفيات الكثيرة ، التي رقد فيها ، لتنتهي القصة ، بوفاته المفجعة في عام 1977 م ، وهتاف الرجل الكردي ، الذي يقلد أغنياتهِ وحركاته ، وهو يردد : ( كاكا عبد الحليم ) .
بقية قصص المجموعة تعزفُ لحناً مشتركاً ، تستجيب فيه لأدوات القاص البارعة ، وهو يوظفها بمهارةٍ عاليةٍ ، في رسمِ ملامحِ شخوصه ، المستلبة دوماً ، والمضطهدة ، كاشفاً بذلك ظروفاً قاهرة ، أشتركت في صنعها أيادٍ ، أرادت الخراب والدمار ، أن تسودا حياة الناس . عبر كل هذه القصص ، أستطاع القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) ، أن يقدم لنا صورة متميزة ، عن إبداعاته في هذا الفن الجميل – فن كتابة القصة القصيرة – بأسلوب أمتاز بالحبكة ، وبجمال العبارة وسهولتها التي تمتازُ بدقتها وعمقها الذي ينفذ ُ إلى ذائقة المتلقي ، دون تعقيد ، ليحقق بذلك مكانة مرموقة له بين كتاب القصة القصيرة ، ليس في العراق وحده ، وإنما على أمتداد الساحة العربية ، مستخلصاً موضوعاته من أتون الواقع ، الملتهب بالصراع ، والمحتدم بالتناقضات ، ليشكل حضوراً فاعلاً ، في دعم قضية الإنسان ، وأحلامه في حياة حرة ، خالية من الجور والاضطهاد والتعسف .