الليالي العربية

كان كتاب ألف ليلة وليلة أول مقتنياتنا من الكتب في سني الصبا الأولى. ولم نكن نبخل به، بعد ما نفرغ منه، على أصدقائنا في المدرسة، بطريقة الإعارة غير القابلة للاسترجاع. بخلاف الكتب الأخرى التي تحتاج إلى صبر وروية، فهي تعود أدراجها في الغالب دون أن تمس.
ولأن ألف ليلة وليلة كان مقروءً، ومفضلاً، فقد طبع ما لا يحصى عدده من المرات، طبعات شعبية رخيصة، وأخرى مترفة غالية، فلكل شريحة من القراء ما يناسبها من الطبعات.
وكان سر انتشار هذا الكتاب الضخم، أن لغته شبه العامية سهلة القراءة، وحكاياته الشعبية خالية من التعقيد. ولم يكن الملل يعرف طريقه إلى القارئ، فيتشاغل عنه بأمر ما، كما في غيره من الكتب الجادة. لذا أحبه الجميع دون استثناء.
ولم يعثر أحد حتى هذه اللحظة على مؤلف أو جامع لقصص الكتاب. وربما لم يكن هناك شخص ما بعينه. فقد يكون جهداً جماعياَ لرواة أو قصاصين تداولوه في المقاهي الشعبية، أو حفلات السمر. وأضاف كل واحد منهم إليه شيئاً من عنده، ليكتسب طابع الإثارة والحماس. فالمهم لديه أن يستمع إليه الناس، ولا يضيقون به ذرعاً. وأغلب الظن أن حكاياته دونت في العصر المملوكي بعد أجيال طويلة، من الرواية الشفاهية. أما محور الحوادث فكان الخليفة هرون الرشيد، وأما مكانها المفضل فهو مدينة السلام بغداد!
في وقت ما حاول كتاب مصريون إعادة طبع الكتاب بعد حذف المشاهد الجنسية، والألفاظ الخليعة، التي لم يكن رواة ذلك العصر يجدون فيها ضيراً. إلا أن المحاكم المصرية لم تقر مثل هذه الفعل، ومنعت التلاعب بالكتاب، ليبقى على ما هو عليه، مثلما صدر أول مرة.
قد لا نحفل الآن بهذا الكتاب ولا نعير له التفاتاً، لأنه لم يعد يلائم أمزجتنا. ولكن الواقع أن جميع الأفلام، وحلقات الدراما، والمسرحيات، التي أخذت عنه كانت ناجحة جداً. ولم يقل عدد متابعيها عن عشرات الملايين. وهو نجاح كبير لم يحظ به إلا القليل من الكتب.
والأغرب من ذلك كله أن الغربيين افتتنوا به أيما افتتان. فحينما ترجم على يد الفرنسي انطوان جالان في بداية القرن الثامن عشر، انتشرت حكايات شهرزاد في مختلف مدن أوربا. وغدت مصدراً مهماً للقصص والروايات والمسرحيات والأوبرا والمقطوعات الموسيقية. وباتت حديث الناس في كل مكان، حتى أنها نقلت إلى لغات العالم كافة. وحينما دخل الجنود البريطانيون بغداد عام 1917 كانوا تواقين لرؤية مدينة الليالي العربية التي ألهبت خيالهم زمناً. ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة حينما وجدوها في أسوأ حال.
ربما لم ينجح كتاب عربي آخر في الحصول على مثل هذا الانتشار، رغم ما قد يحويه من الإبداع. فمقياس الانتشار ليس اللغة الجميلة، ولا النقد اللاذع، ولا الخروج على السائد، بل في الفكرة الهادفة، والرؤية الواضحة، والموروث الشعبي. وهي أمور حظيت بها حكايات ألف ليلة وليلة بشكل واضح لا لبس فيه.
محمد زكي ابراهيـم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة