لم يمر وقت طويل على استئصال المشرط الخارجي لأبشع غدة سرطانية عرفها تاريخ العراق الحديث “جمهورية الخوف” حتى تقافزت على سطح المشهد الجديد ظواهر ومخلوقات وجماعات وخلطات اجتماعية وقيمية وسلوكية، تعجز أشهر المدارس والمراكز المعنية بالتنقيب بمثل هذه التطورات والانبثاقات من هضمها وفك طلاسمها. حيث سحقت الاحدات اللاحقة غالبية ما صدر من تقييمات وتحليلات وكبسولات نظرية جاهزة، لا سيما تلك التي رسمت لما اطلق عليه “العراق الجديد” مستقبلا آخر مغاير لما عرفه زمن النظام المباد، أي أن يتحول الى واحة للتقدم والحريات والتي من خلالها سينهض مجدداً لـ “يقود المنطقة” بوصفه انموذجا للتحولات الموعودة كما جاء في مقال نشر في أشهر الصحف العالمية آنذاك. لنرى ما حصل لتلك الرهانات بعد مرور أكثر من 16 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، وهي مدة كافية جداً لانجاز مهماتها التشريعية والسياسية والاجتماعية، والتي شهدت مثلها غير القليل من البلدان وتجاوزتها بامكانيات أقل بكثير مما توفر لدينا. الذي حصل انها (الرهانات) تهاوت واحدة تلو اخرى ودورة انتخابية بعد اخرى، وها نحن نقف عند حافات جيل جديد من الحماقات والمغامرات والتشريعات الكفيلة بتقويض آخر ما تبقى من تلك الرهانات.
وفقا للحسابات العملية والاستشراف الواقعي لما سيحدث في “العراق الجديد” بعدته ووسائله وصناديقه ومفوضيته المستقلة للانتخابات وغير ذلك من متطلبات ما يفترض انه نظام ديمقراطي يستند الى مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون؛ انه سيشق طريقه صوب التعافي من كل ما له صله باربعة عقود من النظام التوليتاري المباد. أما الذي حصل فمغاير لذلك تماماً، حيث يعجز المراقب الحصيف للمشهد الغرائبي الراهن من الوصول الى ادنى اشارة لمثل ذلك التعافي، وفي شتى حقول الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية للمجتمع والدولة (افراداً وجماعات) ليس هذا وحسب بل تزخر الساحة بتقهقر لا مثيل وانحدار غير مسبوق صوب هياكل ومؤسسات ما قبل الدولة الحديثة، بعد أن “استردت القبائل والطوائف لفتنتها” لتطرد السناين وأسمال الفتاوى، ما راهن عليه المتفائلون من رهانات ساذجة حول الديمقراطية والتعددية والحريات.
بالله عليكم حاولوا ان تدلوني على عينة واحدة تشير الى تعافي ديمقراطي ما، في ادارات الدولة “الجديدة” وملاكاتها، في الاحزاب السياسية القديمة منها والجديدة وفي حطام النقابات المهنية وانقاضها، أو فيما يطلقون عليه بـ “منظمات المجتمع المدني” التي صارت نهباً للسلالات الجديدة من القوارض. أما حرية الاعلام والتعبير فحدث ولا حرج، حيث تعجز أقوى الميكرسكوبات في العثور على منبر اعلامي حر ومهني واحد، بين المئات من المطبوعات والاذاعات والفضائيات وما يتجحفل معها من منابر الاعلام الحديث (السوشيال ميديا) والتي تعتصم غالبيتها المطلقة بعروة الدعم والتمويل الذي لا يعرف مصادره أفضل المنقبين في مثل هذه الحقول الحيوية، والتي تحولت الى مرتع لكل انواع الذباب والقوارض الالكترونية. في مثل هذه المعطيات والوقائع يعد التنطع لتقلد المسؤوليات من قبل هذه الحشود من الجماعات والكتل والافراد؛ أمراً مريباً ومثير للشك غالباً. وهذا لا ينفي وجود عدد ضئيل مسكون بوهم تغيير هذا الحال، وهم بذلك يثيرون الشك بنوع قدراتهم العقلية والمعرفية وكما يقول المثل “الطريق الى جهنم معبد بالنوايا الطيبة”. ان الحل والذي يستدعيه التشخيص الدقيق لحالنا الراهن هو؛ اعلان العراق بوصفه وطناً منكوباً تستدعي حالته تدخلاً عاجلاً للغوث الاممي ….
جمال جصاني