علي لفتة سعيد
فجأة أصابني الضحك.. هكذا بلا مقدّمات رحت أضحك، والمشكلة كان صوت الضحك يرتفع كلّما صادفت أمرًا دون الشعور بتعب فكّيّ أو انتبه لما يصيب عينيّ من دمع واحتقان، ولا تثيرني قلّة الهواء الذي ينتابني حين أشاهد شيئًا أو أسمع قولّا أراه على غير طبيعته.. بدأ الأمر بطريقة الصدفة، وأنا أسمع قولا أن فايروس كورونا غضب سماوي أو كذبة وضحك على الشعوب.. ضحكت بصوت عال أمام مجموعة من الجيران وأنا أحاول أن أثنيهم عن التجمّع والبقاء في البيت وعليهم التحمّل لأيامٍ أفضل من الإصابة والموت.. أخبرتهم أن المصابين بالفايروس هم من يحذّرون من الاستهزاء.. لكن أحدهم وهو بمرتبة الناصح بالإيمان وصاحب لحية ويضع في أصابع يديه الاثنين ثلاثة محابس من النوع الغال، قال جملته تلك وعاتبني جدا كوني لا أصدّق بمحنة الانسان وجبروته.. حينها ضحكت بصوتٍ عال في ردّة فعلٍ غير محسوبةٍ أمام جمع من مصدقّي أقوال جاري الذي يفتح بيته لقراءة الفال ومعرفة المخفي والمضموم وأسرار النساء قبل الرجال وهو يسبح في كل حركة.
مضت الساعات الأولى وأنا أضحك، ولم أهدأ حتى جنّ جنون والدي وقال لي: اهدأ وإلّا ضربتك.. والحقيقة إنني لم أهدأ، كنت أواصل الضحك حتى مع كلام والدي، ولأني بعمرٍ لا يسمح له بضربي، فقد دخل الى الغرفة الثانية هاربًا من جنوني، وحتى لا يسمع صوتي.. طالبتني الوالدة كذلك وهي تحلفني بأغلظ الإيمان أن أهدأ وأكف عن الضحك.: فدوة أروحلك يمّة كافي ضحك الناس تضحك علينا. لكن ردّة الفعل لم تزل هي الضحك، ويزداد صوتي ارتفاعًا حتى صار الجيران يسمعونني، وهو ما أخبرني به أخي الكبير وأضاف أن اتّصالات كثيرة عبر الموبايل تسأل عن سبب الضحك.. ولأنه لا يملك الإجابة فلا حلّ له سوى أن يلوذ بالصمت، الذي فتّته اتصال من جارنا فتّاح الفال من أنه ( شوّر ) بي وهذه ( حوبة كل من يستهزئ بالأفكار وإيمان الآخرين.. ثم قال له أن سبب كورونا من أمثال أخيك
وأن الله سيميت كل مختالٍ وغير مؤمنٍ وغير نظيفٍ وتاركٍ للصلاة ولا يصوم ولا يؤدّي الزيارات ويبقي على من يحب فقط.. فهم أخي سبب ضحكي، وطلب من الوالدة مغادرة الغرفة وأقفل الباب.
مسكني من كتفي وهزّني لعلّي أنتبه، لكن صوت ضحكتي ازداد ارتفاعًا وسمعته يقول أن الجيران يقولون إني أصبت بالجنون.. قلت له وأنا أضحك، ربما أنا مجنون ولكني حين وقفت أمام صاحب الدكّان لأشتري منه علبة سكائر قال ذات الكلام، وحين أردت شراء الخبز قال لي الفرّان ذات الكلام، بل إن مصلّح الثلاجات رآني أضحك وكنت في المرحلة الأولى من حدّة الصوت، قال لي أن عليّ الذهاب الى رجلٍ صالحٍ ليجعلني مرتاحًا ولا يصيبني شيء وسأبرأ من الأمراض والعلل ما أن يبصق في فمي.. ضحكت أيضا حتى جنّ جنوني.. لم يسمع أخي طبعا الكلام الذي أقوله، كانت الكلمات تخرج من فمي مختنقةً حتى أنها لا تشبه الكلمات المتقاطعة، وكان البصاق يخرج من فمي كأني أخرج كمًّا أكبر من الرفض من داخلي.. لم يستطع أخي من فعل شيء خرج الى والدي وسمعته يقول له: إنه أصيب بالجنون وعلينا أن نذهب به الى الرجل الصالح، قبل أن يصاب بالكورونا… حينها صاح والدي، لو أصيب بالكورونا أهون عندي من إصابته بالجنون وكلام الناس حوله.. كان عليه ان يمسك لسانه، فهذا يجلب العار.. بالتأكيد ارتفع صوت ضحكي، والمشكلة أنني لا أعرف من أين تأتيني الطاقة لكل هذا الضحك الذي استمر لساعاتٍ حتى سمعت أخي يقول لوالدي أن الملعون فتّاح الفال نشر مقطعًا مصوّرًا من الحوار على صفحته في الفيسبوك ويتهّمني بالكفر والإلحاد وإنه يصدّق بفايروس كورونا ولا يعده غضبًا ربّانيًا ولا حتى مؤامرة أمريكية.. طبعا ضحكت وزاد صوتي حتى لكأنه وصل الى الجيران السابع ومنهم فتّاح الفال الذي خيّل لي أنه فرح لنشره الفيديو وحصوله على ردود أفعالٍ وتعليقاتٍ عديدة جعلتني أضحوكة مناسبة لتضييع الوقت وزيادة التابعين لأمثال فتّاح الفال، ورحت أتنقّل بين الصفحات عبر القارات السبعة، حتى كأن الفضاء كلّه انشغل بضحكتي التي ترتفع عقيرتها حتى صارت كأنها تخرج من مكبرات الصوت ولا تقبل الطعن بها.
ولكن ما شغلني هو حزن والدي كثيرًا.. لم أستطع أن أفعل شيئا وليس بيدي أمرًا لأغلق منبع هذا الشلّال الهادر من الضحك، حتى الوالدة التي راحت تندب حظّها وتتوسّل بأخي الكبير أن يفعل شيئًا حتى لو اضطرّ الى شدّ وثاقي وربطي بحديد النافذة الخلفية.. وفي محاولةٍ لأعبر عن احتجاجي على أخي كونه صدق بجنوني هتفت من بين صوت الضحك بكلمات التحذير، لكن لا أحد بالقرب منّي .. وحيدًا مثل شيءٍ لا معنى له ولا يقوى على الحركة إلا الضحك.
بعد أقلّ من خمس دقائق سمعت أخي يقول لأبي، إن خبرًا عاجلًا نشرته الفضائيات يفيد أن زيادة بعدد المصابين في المنطقة وخاصة من بصق في فمهم الرجل الصالح.. وأخبر والدي أيضا أنه سمع صوت سيارات الإسعاف وهي تنقل مصلّح الثلاجات الى الحجر الصحي والشرطة طوّقت بيت فتّاح الفال.
حينها بدأ الضحك يخفت رويدًا رويدا وبدأت ألتقط الأنفاس واشعر بالهدوء يدبّ في جسد وعضلات وجهي.. سمعت أخي يخبر والدي، أن ضحكتي صارت مناسبةً كبيرةً حول العالم، وإن الكثيرين في القارات السبعة بدأوا يضحكون، وهم يقفون فوق أسطح بيوتهم أو أمام شرفات المنازل والشقق.. وأخذوا يرفعون هواتفهم وهي تنقل صورتي وأنا أضحك.