في الموقف من الحريات تتكشف الملامح والغايات الفعلية لمختلف الكيانات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والقيمية، فالحريات والموقف منها هي النار التي تحرق الواجهات والعناوين المزيفة، ولنا كعراقيين تجربة طويلة ومريرة في هذا الميدان، حيث انحدرنا الى الحضيض بعد أن سمحنا لـ “أوباش الريف وحثالات المدن” من انتزاع كل ما له صلة بالحقوق والتعددية والحريات وعلى رأسها حرية التعبير، ذلك الارث من الهزائم والاذلال المبرمج والتنازلات ما زال راسخا وفاعلاً، بالرغم من مرور 16 عاماً على استئصال المشرط الخارجي لمن فرض ذلك الخرس والصمت الشامل. لقد برهنت الاحداث والتطورات ولا سيما ما يتضمنه ملف (الحريات) عن فضائح من العيار الثقيل، يتعرف فيها العالم كله على حقيقة من تسلق الى سنام المؤسسات والجمعيات والمنابر التي تدعي الدفاع عن الحريات والحقوق الاساسية لسكان هذا الوطن المستباح. الجميع لدينا يرفع عقيرته ومنابره وصرخات اتباعه بالضد من غول الفساد وما يتجحفل معه من منظومة قيم ومصالح مثقلة بالشراهة وضيق الافق، هذا المشهد الذي تعجز عن فك طلاسمه اشهر مراكز البحوث والدراسات المتخصصة في التعاطي مع مثل هذه العينات الغرائبية، يتعرى بشكل فاضح عند أول مواجهة فعلية في هذا الميدان (الحريات).
عندما نتصفح شيئاً من فصول هذا ملف ونوع معاركه وطبيعة القوى والمخلوقات التي تسلقت لمواقعه المفصلية بعد “التغيير”، سنصل الى ما يمكن التعويل عليه، في مهمة فك طلاسم المشهد الغرائبي الراهن. ما سنكتشفه وعبر الاصطدامات اليتيمة في هذا المجال، يعري غالبية هذه القوى والمؤسسات والمخلوقات التي تنطعت لنصرة من لا ناصر لها (الحريات) ان لم نقل جميعها، حيث يبرز التواطؤ والجبن والتخاذل بشكل سافر، لا سيما في ما يعرف بـ “حقول الغام” هذا الملف واضابيره المسكوت عنها. كل هذا ويتساءل العراقيون عن علل حظهم البائس والنحس العضال الذي يرافقهم زمن النظام المباد وبعده.. وعن علل كل هذا الاخفاق في طوفان مشاريع ودعوات الاصلاح والتغيير التي حظيت بعشق جميع الكتل المتغولة منها أو التي لاتراها العين المجردة والميكرسكوبات الالكترونية..؟
جميع الظواهر والاعراض والتداعيات المشينة التي وصمت تاريخنا الحديث بالذل والخيبة والنكسات؛ تعود بالاساس الى تلك الاحتياطات الهائلة من اليباب والجدب في هذا الحقل (الحريات) والذي يعود له الفضل بما ارتقت اليه ما يعرف اليوم بـ “الامم الحرة”. هذا الارث المشين من العبودية والذيلية وما تتمترس به من جيوش الحبربش والاتباع، هو من يقف بالمرصاد لكل محاولة مارقة تهدهد في مخيلتها مثل هذه “البدع” المعادية لثوابتنا الجليلة وما تختزنه ترسانة رسائلها الخالدة من سرديات وبطولات وعنتريات. في البلدان التي اكرمتها الاقدار وتضحيات اهلها ومآثر عقولها الحرة، بما يعرف بدولة المواطنة والمدونات التي لا تميز بين عيال الله على اساس الجنس أو الرطانة أو الاعتقاد، يوجد لديهم ما يعرف بـ (الرأي العام). هذا الذي لم نمتلكه بعد (الرأي العام)، لا قيامة له من دون الحريات والتشريعات والمؤسسات التي تحميها وتعدها رأس القيم الاساسية للمجتمع والدولة. وهذا ما أدركه القاضي مارشال قبل أكثر من قرنين، عندما أرسى القاعدة القائلة: (ان المحكمة مخولة وملزمة باعتبار هذه الحقوق “الحريات” فوق أي قانون او حكم او مرسوم، واعتبار أي قانون أو حكم او مرسوم يخالفها باطلاً..) فتأملوا يرعاكم الله…
جمال جصاني