المجرم الذي أصبح كاهناً

الفيلم البولندي «عيد القربان»

عبد الكريم قادري:

يحمل الفيلم البولندي «عيد القربان» 2019، لمخرجه «يان كوماسا»، والذي عُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي (19-27 سبتمبر/ أيلول 2019)، العديد من الأسئلة الدينية التي ترتبط بين العبد وربه، والروحية التي تتشكل من خلال المعايشة والمخالطة واكتساب التجربة من الحياة، هذه الأسئلة الوجودية اشتغل عليها المخرج وكاتب السيناريو «ماتيوش باسيفيش»، من خلال رسم معادلة أو مقاربة استمد حيزها المكاني في بداية الأمر من سجن الأحداث الذي يقبع فيه دنيال الشاب، مرورا بالكنيسة التي أصبح كاهنا فيها بالمصادفة، وانتهاء بالسجن الذي عاد إليه مرة ثانية، في هذه المحطات الثلاث تنعكس المعادلة بشكل جلي، بعد أن تتفكك كتلة الأحداث لتُظهر بشكل آخر الحيز الزماني الذي عاش ويعيش فيه سكان القرية الصغيرة التي أصبح هذا الشاب كاهنا فيها، بعد أن ساقه القدر ليصبح قائد أبرشيتها ويحقق له هذا الحلم الذي عجز عن تحقيقه بسبب سجله الإجرامي.
عن طريق هذه المعادلة البسيطة تولد الأسئلة الكبرى التي تتشكل في وعي دنيال «أدى الدور بارتوش بيلينيا»، الذي أرتكب جريمة بشعة في صغره، لكنه أراد التكفير عن ذنبه من خلال تقديم نفسه قربانا للكنيسة ليصبح خادما لها، وهذا بعد أن قدّم هذا المقترح للكاهن الذي يصلي معه في السجن، لكنه تفاجأ من ردة فعله، آو من النظم التي تسير الأبرشيات والكنائس، وهي أن لا تفتح المجال للمسبوق، بغض النظر على قوة إيمانه وطريقة تعاطيه مع المعطيات الدينية وتقواه، من هنا يتشكل السؤال الجوهري لدى دنيال، وهو إن كان الرب يغفر خطاياه وذنوبه وسرعان ما يقبله كعبد من عبيده الخيريين، فلماذا يرفض هذا الكاهن/ العبد، هذه المغفرة، ويحاسبه على ماضي دفع فاتورته الكبيرة من خلال السجن وتأنيب الضمير والتوبة، أليس هذا كافيا في نظره، وهل من حق الكاهن الذي يُنادي ويقول بأن الله يغفر الذنوب بينما الأنظمة التي تسير هذه الأبرشيات ترفض المغفرة، هذه الروحانيات تبقى مجرد نظريات يتم تدويرها في ذهن دنيال، لكنها تتحول إلى تجربة عملية وهذا بعد أن تسريحه بشروط، أين تم إرساله إلى أحد ورشات النجارة في قرية صغيرة، وهناك تتشكل في حياته صدف معينة يعدها رسائل من الرب، ويجد نفسه مرغما على إتباعها ولو كانت ضد القانون الدنيوي الذي وضعه الإنسان.

تقاطعات الحياة ومعادلات الإجرام
خلق المخرج مقارنة في غاية الأهمية، بين السجن والفضاء الخارجي، أين صور الأول على أنه مكان يُعج بالإجرام والمجرمين، والدليل ما حدث لدنيال، الذي مورس عليه عنف كبير من طرف النزلاء، وهو سلوك بشع يجعل من عملية سجنهم مبررة ومنطقية، وفي الوقت نفسه تخلق عملية إدانة واضحة من قبل المتلقي/الجمهور، الذي سيكره المعتدين ويتعاطف مع الضحية/دنيال، أما الفضاء الخارجي فيتمثل في عدة أطراف، يعكسها كل من صاحب ورشة النجارة الجشع الذي يعرف بأن دنيال كاهن مزيف لكنه يبتزه ويكيف الأمر لصالحه، وأقارب ضحايا الحادث المروري الذين يُحمّلُون شخص من القرية مسؤولية مقتل أبنائهم، ويرفضون بشكل قطعي دفنه في مقابرهم، والكاهن القديم الذي يعيش في حالة سكر دائم، هذه المقارنة هي معادل موضوعي للإجرام، وتجعل من المتلقي يتساءل عن المجرم أو الجرم الحقيقي، أو محاولة لفهم ماهية الإجرام، الأول مكشوف وواضح بوصفه مكان سالب للحرية، نزلاؤه مدانون من طرف الجميع، أما السجن الخارجي برغم كمية الإجرام الذي يحملها كل فرد في داخله فينعمون بالحرية، فيما يبقى دنيال يُحافظ على هذه المسافة التي تجمع المحطتين أو العالمين، وليكون الموضوع عبثي بشكل أكبر هو أن كمية الإجرام التي تلقاها دنيال داخل السجن تحتم عليه أو تبرر له بأن يكون مجرما، لكنه تغلب على هذا وتحول إلى شخص نظيف نسبيا، أما الفرد الذي يعيش في الفضاء الخارجي مثل صاحب مصنع الخشب الجشع، هذا مجرم بسبب السلوكيات التي يرتكبها لكنه في نظر القانون والمجتمع شخص صالح، وخير مثال على هذه المعادلة هي زوجة الكاهن التي نشأت في بيئة دينية تقية مفعمة بالإيمان من هنا وجب أن تكون عفيفة بعيدة عن الإجرام، لكن من خلال سلوكها مع زوجة من اتهمته بالتسبب في الحادث المأسوي، أو رفضها لعملية الدفن، كلها مؤشرات إجرام، من هنا تتحقق المعادلة، دنيال كان في بيئة كلها إجرام لكنه نظيف، وزوجة الكاهن نشأت في بيئة دينية لكنها تمارس نوع من الجرم.
سينما المقارنات أو اللعب على الأضداد
تشكلت هوية النص السردي في فيلم «عيد القربان» (116 دقيقة) من البناء المتماسك الذي انعكس في التوزيع الجيد لأحداث القصة، والتقاطعات التي رسمتها التعابير الدرامية المختلفة، وهي ما رسمه واقع الشخصيات وصراعاتهم مع أنفسهم ومحيطهم، وهي الانفعالات التي يسهل توليدها من عقد المقارنات أو اللعب على الأضداد لتوصيل المعنى والوصول إلى لذة المُشاهدة التي تقتل الملل وتخلق في المقابل متعة الاستمرار ومرافقة الأحداث إلى نهايتها، وهي ما يتم تقديمه في بداية القص وجعل بعض الاجابات معلقة إلى نهاية الفيلم، مثل البحث عن إجابة لأسئلة مزروعة في الفيلم، مثل كيف سيتم التعامل مع دنيال بعد أن يتم اكتشاف حقيقته؟، ما الذي سيحدث بعد أن يتم دفن المتهم بقتل شباب القرية من خلال حادث المرور؟، ماذا ستكون ردة فعل سكان القرية عندما يعلمون بأن الكاهن الذي أحبوه هو مجرم سابق؟، هي الأسئلة والأخرى ظلت معلقة في الفيلم، ما إن يتم الاستجابة إلى سؤال حتى يولد آخر، لجعل المتلقي معلقا في حبائل المخرج وكاتب النص، وهو الرهان الذي كسبه المخرج، بالإضافة إلى القيمة الإنسانية التي يحملها الفيلم من خلال تفسير العلاقة التي تجمع الإنسان بربه، وهي علاقة وان كانت معقدة وضبابية، غير أنها تبقى ضرورية لأنها الوسيلة الوحيدة للبوح والإخبار بما تكنه النفس البشرية من أثقال الحياة.
تعود المخرج يان كوماسا على طرح الأسئلة المعقدة في أفلامه، وهذا ما جعله يمضى قدما في عملية صناعة الأفلام، فقد سبق له وان جلب الأضواء للعديد من أفلامه، أهمها « غرفة الانتحار» 2011، الذي فاز بجائزة الانعكاس الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان جنيف السينمائي الدولي، كما تحصل فيلمه «المدينة 44» 2014، بتنويه خاص كأفضل فيلم بولندي في جوائز صناع ونقاد السينما البولنديين، كما سبق له واخرج فيلما وثائقيا تحت عنوان « انتفاضة وارسو» 2014، ليكون فيلم «عيد القربان» 2019، آخر أفلامه، وقد تم عرضه عالميا لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة