زين العابدين غبولي
مرّت ستة أشهر منذ بدء حركة الاحتجاجات السلمية في الجزائر، التي عادةً ما تُعرَف بـ»الحراك»، والتي أطاحت بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي حكَم لفترة طويلة. وتوصّلت حركة الاحتجاجات أيضًا إلى تفكيك جماعة بوتفليقة بما أن معظم شخصياتها المثيرة للجدل هي اليوم في السجن. ومع ذلك، لم ينتهِ بعد كفاح الجزائريين في سبيل تحقيق الحرية والديمقراطية بما أن المحتجّين مصممون على الاستمرار في حراكهم حتى تلبية كافة مطالبهم. ومع قدوم الانتخابات، يواجه الجزائريون خيارًا صعبًا سيحدد مصير بلدهم للعقود المقبلة؛ فيأتي خيار الانتخابات هذه المرّة مع عواقب ملحوظة.
خطة النظام: تصعيد تدريجي
في 15 أيلول/سبتمبر، خاطب رئيس الدولة الجزائري المؤقّت، الذي انتهت ولايته الدستورية في 9 تموز/يوليو، الأمّة للإعلان عن إجراء الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ديسمبر بعد إنشاء «سلطة مستقلة للانتخابات» وتعديل القانون الانتخابي. وهذه المرّة الثالثة التي تحاول فيها السلطات الجزائرية تنظيم انتخابات رئاسية إذ أُرجئت انتخابات شهر نيسان/أبريل بعد استقالة بوتفليقة وأُلغيَت انتخابات شهر تموز/يوليو بسبب المقاطعة التامة وغياب المرشّحين. وفي الواقع، أوّل من أصرّ على قرار تنظيم الانتخابات الرئاسية هو رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الذي شدد على أن المؤسسة العسكرية، التي تُمسك فعليًّا بالسلطة في الجزائر، ترفض كافة أشكال التنازلات وترى أن الانتخابات الرئاسية المبكرة هي السبيل الوحيد الممكن للخروج من الأزمة.
كان موقف الطغمة العسكرية متوقَّعًا بما أنها عاجزة حاليًّا عن ممارسة السيطرة من خلف الكواليس كما اعتادت أن تفعل. فقد أرغمت حركة الاحتجاجات الجزائرية الطغمة العسكرية على الإعراب علنًا عن مواقفها وحتى البت في مسائل سياسية كالانتخابات. غير أن الطغمة العسكرية أظهرت مؤخرًا استعدادها لاستخدام تدابير قمعية من أجل فرض خريطة طريقها. وبهذا المعنى، اعتُقل عدة قادة من المعارضة مثل كريم طابو وسمير بن العربي وفضيل بومالة ووُضِعوا قيد الاحتجاز المؤقّت في الأيام القليلة الماضية. ومنذ بدء الحراك، سُجن أكثر من 100 محتج لأسباب سياسية. إضافة إلى ذلك، كانت القيادة السياسية الجزائرية تبثّ خطابًا تهديديًّا وعدائيًّا ضد المحتجين يَسِم كل معارض سياسي لخطة المؤسسة العسكرية بـ»عدو» الجزائر. حتى أن قايد صالح، الرجل القوي اليوم في النظام الجزائري، أمرَ قوات الدرك بمنع الدخول إلى العاصمة أيام الجمعة وحجز كافة العربات التي تحمل المحتجين. وستنتج عن هذا القرار حالة حصار بحُكم الواقع على عاصمة الجزائر يوم الجمعة، ما يشكّل خرقًا للدستور الجزائري والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
تشير التدابير القمعية التي تتّخذها السلطات الجزائرية إلى أن النخبة الحاكمة الحالية لا تنوي الدخول في مفاوضات مع المحتجّين الجزائريين أو حتى مناقشة خريطة طريقها أكثر. ويشكّل عزل العاصمة والحدّ من حرية التعبير علامات واضحة ومثيرة للقلق على أن النظام يتّجه نحو فرض حالة طوارئ إذا بقي المحتجون محتشدين.
استجابة المحتجّين: الحشد الحذِر والمنتظم
برغم عدائية النظام وظلمه، يصمم المحتجّون الجزائريون على عدم التصويت طالما ما تزال القيادة السياسية السابقة التي خدمت تحت حُكم بوتفليقة تحكم. وبالتالي، تعارض على مشروع الانتخابات معظم الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية المعنية في الحراك. فيجد المحتجّون أن القيادة الحالية غير جديرة بالثقة وعاجزة عن تحقيق التغيير الحقيقي. إضافة إلى ذلك، يرى هؤلاء أن الانتخابات، بشكلها الحالي الذي لا يقدّم ضمانات حقيقية، هي بمثابة فرصة للنظام حتى يكرر نفسه. وبهذا المعنى، تبرز أزمة جدّيّة متعلقة بالشرعية تظلل المؤسسة السياسية في الجزائر وتهدد مؤسساتها.
بعد ستة أشهر، ما زال المحتجون يتوصلون إلى حماية وحدتهم برغم كل الاختلافات الإيديولوجية والسياسية. كما أنهم قادرون على الحفاظ على الطبيعة السلمية لاحتجاجاتهم حتى في ظل التدابير القمعية المثيرة للغضب والخوف. فبالنسبة إلى المحتجّين، الهدف الأهم الآن تفكيك النظام السياسي ووضع أسس الدولة الديمقراطية والعادلة. وقبل التوجّه إلى أي نوع من الانتخابات، يطالب المحتجّون بتنازلاتٍ جدّيّة من النظام، تشمل استقالة الحكومة الحاليّة، والحياد السياسي الحقيقي من جانب الجيش، وإخلاء سبيل جميع السجناء السياسيين فورًا. وتشكّل البيئة الراهنة بالنسبة إلى الكثيرين عائقًا كبيرًا أمام تنظيم انتخابات عادلة وشفّافة.
من جهة أخرى، رغم عزم المحتجّين على الإطاحة بالنظام، ثمة بعد نوعٌ من عدم القدرة على توفير بديل توافقي. ففيما يتّضح أن الجميع يريد ترحيل النظام، تعجز القوات السياسية والاجتماعية عن الاتفاق على خريطة طريق واقعية وعملية واحدة ما إن يرحل النظام. وبالفعل، يلقى النظام رفضًا واسع النطاق، وتُعد تدابيره القمعية السبب الأساس لعجز الجزائريين عن مناقشة مستقبل بلدهم بنحو صريح. إلا أنه ما من بديل مقبول حاليًّا على نطاقٍ واسع يستخدمه النظام للتحكم بالمحتجّين وتقسيمهم. غير أن النظام فشل حتى الآن في تحقيق أهدافه.
أتشكّل الانتخابات «فخًّا»؟
بين جمود الطغمة العسكرية وصمود المحتجّين، إن الانتخابات القادمة حاسمة بغض النظر عن الظروف والعواقب، سيّما إذا أُلغيت هذه الانتخابات. وفي الواقع، حتى مع تأسيس «السلطة المستقلة للانتخابات» مؤخّرًا، لن يرى المحتجّون على الأرجح أنّ هذه الانتخابات «عادلة» و»ديمقراطية». واليوم، إن مشكلة الشرعية في الجزائر أعمق بكثير من مجرّد الانتخابات. فثمة ضرورة، توافق عليها حتى بعض الدوائر من داخل النظام الجزائري، تقضي بتغيير كامل المؤسسة السياسية التي لم تعد تلبّي مطالب الجزائريين ولم تعد قادرة على حُكم البلد. حتى أنه يمكن اعتبار أن اختيار الانتخابات المبكرة في سياقٍ كهذا، من دون تدابير تهدئة ومع ازدياد نسبة الظّلم، لن يؤدي إلا إلى تعقيد الوضع وجعل أزمة الشرعية أسوأ بعد. فسيكون أي رئيس جزائري مستقبلي بحاجة إلى الأغلبية الشعبية في أي انتخابات من أجل تنفيذ الإصلاحات اللازمة؛ وفي الواقع، سيجري التنازع على سلطة أي رئيس «منتخَب» تحت هذه الظروف.
من الواضح أن السياق الأمني الإقليمي، فضلًا عن الوضع الاقتصادي المقلق، يتطلّب حلًّا سياسيًّا عاجلًا. فتوشك الجزائر على الانهيار الاقتصادي وستواجه خيارات اقتصادية صعبة في المستقبل القريب. ويوافق كلٌّ من المحللين الجزائريين والدوليين على أن هذا الغموض السياسي يهدد اقتصاد البلد المتراجع أصلًا. فلا بد من أن تتوافق الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية، وأن تبدأ القيادة العسكرية بالاستماع إلى مطالب الناس بدلًا من فرض وجهة نظرها. وسيؤدي الاستمرار في هذا الغموض السياسي، لا سيما إذا أُلغيت الانتخابات مجددًا، إلى مأزقٍ سياسي غير مسبوق وخطير. وسيكون استقرار الجزائر منوطًا بانتقال السلطة بشكلٍ سريع وسلمي. ولن يحدث ذلك على الأرجح من دون فهمٍ جديدٍ للعلاقات المدنية العسكرية، يتطلّب بعض الجهد والتضحيات من كلا الطرفين، أي من الطغمة العسكرية والمحتجّين.
لسوء الحظ، يمكن أن تؤدي مواقف قايد صالح الصارمة وورقة «الانتخابات» الخاصة به إلى التصعيد، خاصةً بعد أن أمر بمنع الدخول إلى العاصمة. حتى أن خطة الطغمة يمكن أن تقسّم النظام، ما قد يتسبب بتجزئة حادّة لمؤسسات الدولة. وستكون الأسابيع القادمة حاسمة، وستدخل الجزائر في مرحلة خطرة ستشكّل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرار المنطقة، إلا إذا أُجريَت بعض التغييرات الجدّيّة لتهدئة الاضطرابات. وتبدو انتخابات شهر كانون الأول/ديسمبر بمثابة «فخ» أكثر من كونها فرصة حقيقية للتغيير الديمقراطي؛ ويفهم المحتجّون ذلك وهم يخططون لإفشالها. ومن جهة أخرى، يريد النظام الاقتراع بأي ثمن، ما قد يعرّض سلامة الجزائر واستقرارها للخطر. وفي غضون ذلك، يجب أن تأمل كافة الجهات الفاعلة الوطنية والدولية بحدوث الأفضل، لكن يجب أيضًا أن تتحضّر جدّيًّا للأسوأ.
زين العابدين غبولي طالب جزائري بالجامعة الأميركية في بيروت. شارك في العديد من القضايا السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع التركيز على الشؤون الجزائرية.
معهد واشنطن