جمال جصاني
ان مشهد التدهور الذي يبدو غرائبياً للبعض في الحالة العراقية الراهنة، لا يمكن عزله عما جرى من لحظة اغتيال «الجمهورية الاولى» وتلقف اوباش الريف وحثالات المدن لمقاليد امور الدولة والمجتمع في شباط من عام 1963 الى لحظة تسلل الجيل الجديد من دغل التدين المنحدر لمضاربنا من عمليات التخصيب في الحقول المشتركة لوكالة المخابرات الاميركية والتمويل الريعي لولايات النفط والغاز البدوية وصولاً الى فزعة الحملة الايمانية. ما يجري اليوم على تضاريسنا المنكوبة من غزوات وصولات لمومياءات التاريخ ونصوصه وطلاسمه وتعاويذه الفتاكة، يعود الى عدد من الشروط والعوامل الموضوعية والذاتية، ومن أسوأ المصادفات التي عجلت مثل هذا المصير لوطن كان مترعاً بمشاريع الاحلام الواعدة بالاستقرار والازدهار على شتى الجبهات، هي لحظة انكماش المشروع الوطني وزعامات من نسيج جعفر ابو التمن، وامتطاء ما يمكن ان نطلق عليه بـ «زعاطيط السياسة» لسنام السلطة المطلقة فيه. البعض ممن أدمن على مضغ علف الاجابات الجاهزة، لا يمل من ترديد ترنيمة «عفا الله عما سلف» وملحقاتها عن زوال الماضي وارثه، متناسياً قانون حفظ الموروثات وفضلاتها، حيث تتناسل القيم والتقاليد المهيمنة لتسلم الراية لنسخ جديدة من زعاطيط السياسة وقوارض نهش المجتمعات والدول. الملامح البشعة لهذه الحقيقة كشف عنها تطور الأحداث بعد تبخر مظاهر جمهورية الخوف، حيث لم يمر وقت طويل حتى اندفعت الجموع خلف جيل جديد من «السياسيين» يقبع في قعر اولوياتهم الهوية العراقية ومصالح الوطن العليا وخدمة الشأن العام. ان المأزق التاريخي الذي تتخبط وسط اضطراب امواجه شعوب وقبائل وملل ونحل هذا الوطن القديم، يزداد عتمة بفعل النفوذ الكاسح لهذا النوع من الزعامات المثقلة بالخزعبلات القيمية والسياسية والثقافية، حيث الثارات والاحقاد الصدئة والمفاهيم والشرائع المتنافرة وما دونته سلالات بني آدم في مجال شرعة حقوق الانسان.
سلسلة من الهزائم الحضارية والسياسية والقيمية جعلت من مضاربنا مكباً لنفايات الدول والمجتمعات والمنظومات المأزومة، حيث تتدافع عند حدودنا المنتهكة، كل انواع القوافل اليائسة من رحمة الله وحاجات الحياة في هذا العالم الذي حولته العلوم والتقنيات الى قرية. ما يحصل لنا عرباً وكرداً شيعة وسنة واقليات لا يراد لها ان تتآخى وتتعايش على أحد اغنى تضاريس وجغرافيات هذا العالم، يتحمل وزره كل المنتسبين لنادي «زعاطيط السياسة» الضاجين اليوم عند حرائق الوليمة الازلية.