عمرو حمزاوي
ملخّص: إذا كانت السلطوية الحاكمة في مصر تغري قطاعات شعبية واسعة بالالتحاق بالجموع ذات الرأي الواحد لكي تسهل السيطرة عليها وتوجيهها، فما الذي يبتغيه الناس أنفسهم من وراء ذلك؟
لماذا ينجرف الكثيرون في مصر اليوم إلى إلغاء العقل والامتناع فيما خص القضايا العامة عن إعمال ملكاته بحثا وقراءة وتفكيرا ومفاضلة بين التوجهات المختلفة؟ لماذا يتخلى الكثيرون طواعية عن فرديتهم التي لها أن تمكنهم من التعبير الموضوعي والمستقل عن الرأي بشأن القضايا العامة ويفضلون الانصهار في جموع ترفع يافطات الرأي الواحد وتنزلق من ادعاء الصواب الخالص وادعاء احتكار الحقيقة الخالصة إلى هاوية نزع المصداقية عن كل من يختلفون معها وكارثة الغوغائية المتوحشة؟
إذا كانت السلطوية الحاكمة في مصر تغري قطاعات شعبية واسعة بالالتحاق بالجموع ذات الرأي الواحد لكي تسهل السيطرة عليها وتوجيهها، فما الذي يبتغيه الناس أنفسهم من وراء ذلك؟ إذا كانت نخبة الحكم ترى في تعميم إلغاء العقل والتخلي عن الفردية بين الناس السبيل إلى الحفاظ على مواقعها بالرغم من الحرب على الحريات وانتهاكات الحقوق المتراكمة وغياب الشفافية وشبهات الفساد، فما الذي يبتغيه الناس أنفسهم من وراء ذلك؟ ولماذا لا ينسحب البعض بعيدا عن جموع الرأي الواحد المفروض حكوميا حين تتضح غوغائيته وتهافته، بل ويواصلون الانصهار بداخله ويتمسكون بإلغاء العقل والتخلي عن الفردية وكأنهما دين جديد؟
الإجابة الأولى الممكنة هي أن الكثير منا يعزفون عن إعمال العقل بشأن القضايا العامة، ويفضلون السير وراء غيرهم. ربما هي ظروف الحياة القاسية التي تستنفذ طاقات وقدرات الناس في الأمور التي تخصهم وتخص أسرهم. ربما هو تعقد الكثير من القضايا العامة وصعوبة الإلمام بتفاصيلها. ربما هي الانطباعات المسبقة باستحالة بناء الرأي حول قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية دون «السادة الخبراء والمتخصصين» الذين سرعان ما يصيرون كهنة المجتمعات المعاصرة والمتحدثين الحصريين باسم الحقيقة. ربما هي السلطوية الحاكمة التي تزيف وعي الناس على نحو يجعلهم يسلمون بحتمية الاعتماد الأحادي على «البطل المنقذ» في إدارة شؤون الدولة والمجتمع والمواطن وبضرورة اعتناق الرأي الرسمي كصواب خالص.
في جميع هذه السياقات يختار الكثيرون بيننا الامتناع عن البحث والقراءة والتفكير في القضايا العامة، يختارون الامتناع عن طرح التساؤلات المشروعة والمفاضلة المستقلة بين الإجابات المطروحة، ينتهي بهم الحال إلى إلغاء العقل والتخلي عن فرديتهم والانصهار في الجموع التي تخضعها السلطوية الحاكمة للتهديد المستمر بالقمع والتعقب حال عدم الامتثال.
الإجابة الثانية الممكنة هي أن الكثير منا يحتاجون للانصهار في الجموع لكي يكتسبوا هوية الانتماء إلى المكان وأهله، إلى الوطن وناسه، إلى المجموعات ومقولاتها الكبرى. وفي سبيل الهوية، ولأنهم لا يرون سبلا أخرى لاكتسابها، يقدمون العقل والفردية قربانا على مذابح الجموع ولآلهة الرأي الواحد. نذبح قيمتي العقل والفردية للتماهي مع تعريف الهوية الوطنية الذي تصنعه السلطوية الحاكمة وتحدد وفقا له «معايير» الانضمام إلى جموعه (المواطنين الشرفاء، أهل الخير، المصريين). نذبحهما لكي ننصهر في جموع مدعي الصواب الخالص واحتكار الحقيقة الخالصة باسم «البطل المنقذ» ولكي نشارك في نزع المصداقية عن المختلفين.
في جميع هذه السياقات يختار الكثيرون بيننا التسليم بالمقولات الكبرى للجموع، يختارون عدم التوقف عن الركض وراء غوغائيتها خوفا من فقدان الهوية ويختارون التماهي الكامل حتى عندما يدركون تناقض مقولات الجموع مع الحقائق والمعلومات وتعارضها مع الصالح العام، يختارون التورط في العنف اللفظي لإسكات الأصوات الأخرى التي تطالب بإيقاف الحرب على الحريات والمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان والتحقيق في شبهات الفساد بالتحقيق. بل أنهم، ولأن غوغائيتهم تحتاج دوما إلى ذبائح جديدة، يستدعون أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات ويزعمون الاستناد إليها من جهة لاستكمال نزع مصداقية المختلفين معهم ومن جهة أخرى لإكساب جموعهم مصداقية زائفة. تداخل الاحتمالان، عزوف الناس عن إعمال العقل واستساغة السير وراء الغير وكذلك قابليتهم للتضحية بالفردية في سبيل هوية جماعية، في العديد من لحظات الجنون والصخب التي تشهدها مصر اليوم. قبل كثيرون المقولات التبريرية لانتهاكات الحقوق والحريات سيرًا وراء من زعموا حتميتها لضمان الخبز والأمن. تماهى كثيرون مع معايير الانصهار في جموع «المواطنين الشرفاء»، فاقتنعوا بمقولات التآمر وجعلوا من كل معارضة سلمية للسلطوية الحاكمة فعل خيانة للوطن ومصالحه العليا. ركض كثيرون خلف غوغائية الرأي الواحد، واستسلموا للزيف القاضي بوجوب الامتناع عن معارضة «البطل المنقذ» دفاعا عن الدولة وتماسكها وعن المجتمع وأمنه. فعلوا ذلك متجاهلين لضرورة المعارضة السلمية وصون الحريات والحقوق للانتصار للوطن ومصالحه.
وعلى الجانب الآخر، امتنع بعض المعارضين عن إعمال العقل في القضايا العامة وأهدروا قيمة الحقيقة والمعلومة والطرح الموضوعي في سبيل السير وراء المقولات الرائجة على شبكات التواصل الاجتماعي (ظاهرة الركض وراء الترند). يتورط بعض المعارضين في استدعاء أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات للترويج لمقولاتهم كصواب خالص وتجريد مقولات السلطوية الحاكمة من المصداقية كخطأ خالص أو لتحويل الشبهات إلى أمور قطعية دون إعمال للعقل أو طلب للشفافية. وهم بذلك يمارسون ذات نهج السلطوية ويقضون معها على فرص احترام الحقيقة والمعلومة الموثوقة وقبول الرأي الآخر دون استعلاء يتبعه تسفيه. متى نستفيق؟
عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
كارنيغي للشرق الاوسط