بوق ومشارط

لأسباب موضوعية وتاريخية لم تعد تخفى على الجميع، انقلبت منظومة القيم ليصبح سافلها عاليها، ومع استمرار مثل هذه المناخات الشاذة، أصبح الشعور بالخجل أو الخزي من الخصائص المنقرضة أو على وشك الزوال، وكما يقول أحد الروائيين “عش مع الخزي والعار مدة طويلة، سيصبح مألوفاً كجزء من الأثاث..”. قصتنا اليوم عن نوع من المخلوقات أفرزتها مناخات التفاهة المهيمنة على المشهد الإعلامي الراهن، مخلوقات أتاحت لهم الأوضاع الحالية ووسائل الإعلام بأشكالها المختلفة، التقليدية منها أو الحديثة (المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي)؛ الفرصة كي ينشروا “قيحهم” المتخصص بالتذلل والترويج لشخصيات، وضعتهم الصدف السيئة ومعايير المحاصصة على رأس مواقع ومسؤوليات لا علاقة لسيرهم الذاتية ومواهبهم بها لا من قريب ولا من بعيد. لا يحتاج القارئ مهما كان مستواه الثقافي الى جهد كي يعرف طبيعة وهدف تلك الكتابات، وكونها مدفوعة الثمن ومن صنع “أبواق” لا تجيد غير مهنة التذلل والتزلف. لقد استعنت بمحرك البحث “غوغل” كي أتعرف على حقيقة هذه الأسماء، فوجدتها لم تدبج جميعها عبر ما وضعته من “أسماء” غير تلك المواد التي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، في مدح أولياء نعمتهم الجدد. مثل هذه الممارسات والنشاطات المخزية، تكشف لا عن الدور الذي تلعبه هذه “الأبواق” في التغطية على الفساد والترويج له وحسب، بل عن مستوى ضحالة أولئك “المسؤولين” الذين استأجروا تلك “الأبواق” للترويج لهم. ومن المؤسف ان تكون هذه الحالة المرضية، أكثر رواجاً ونفوذاً في حقل الإعلام ومؤسساته وشبكاته وجماعاته وجمعياته وكواليسه المعتمة. يعرف القاصي والداني ما جرى على سكان هذا الوطن، من محن وكوارث ما كان لها أن تدوم كل هذه العقود الطويلة؛ لولا انتشار هذا الوباء المدمر “الأبواق”. وهل بمقدورنا نسيان ما صنعته مع ذلك المخلوق الخرافي والذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير، لكن قوارض المنعطفات التاريخية لا يمكن لهم أن يتعظوا من مثل تلك المحطات في تاريخ الشعوب والمجتمعات والدول. ويبدو من خلال قراءة الوضع الحالي ونوع الاصطفافات والهموم والاهتمامات التي تستوطن جماجم ممثلي الكتل المتنفذة؛ ان الطلب على تلك المواهب والمهن وعلى رأسها “الأبواق” سيستمر وربما يتضاعف مع احتدام التناهش عند أطراف الوليمة الأزلية.
لقد كنا نعلل النفس بعد زوال النظام المباد، بولادة بدائل وحلول وتقاليد جديدة في العمل والسلوك، إلا ان الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد الامور، شقت طرقا وسبلا اخرى لا علاقة لها بما نسجنا من مشاريع وآمال؛ حيث سارعوا للاستثمار بما تركه النظام المباد من حطام وفضلات وأسلاب، ولم يكتفوا بذلك بل أضافوا لذلك ممارسات وتقاليد سنحتاج الى وقت ومعجزات وجهود هائلة، كي نتخلص منها ومن آثارها المدمرة. من السنن المميتة التي سنتها هذه القوارض؛ هو تطويب الوزارات والهيئات والمؤسسات لصالح أحزابها وقبائلها العشائرية والسياسية، وبفعل هذا التوجه الأهوج والبعيد عن المسؤولية تجاه الوطن والناس، أصبح عدد الموظفين الحكوميين يناهز الثمانية ملايين، بعد أن كان عددهم في العام 2003 لا يتجاوز المليون موظف. كما ان البعض من هؤلاء “المسؤولين” لم يكتفوا بتسخير “الأبواق” فقط بل تذكروا إرث ذلك المخلوق الخرافي، في مجال وضع الأغاني والفيديو كليب الذي يشيد ويمجد بـ “مآثرهم” و”عبقرياتهم” الفذة، كل هذا يجري في وطن يمتلك مؤسسات رقابية يفوق عدد المنتسبين اليها، ما تمتلكه دول عظمى في هذا المجال..؟!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة