«الملك لير» إنموذجا»
علاء هاشم
هناك علاقة عضوية بين السينما وبين المسرح والرواية والشعر، تجعل العديد من المخرجين يرون في أنَّ تقديم العمل الأدبي هو إمتداد لحالاتهم الفنية والثقافية، ويبدو الأمر أحياناً أقرب إلى الواجب الفكري، تقديراً للعمل الأدبي أو الأديب الذي أقدم على كتابته، كما أنَّ صانعي الأفلام يجدون في العمل الأدبي مصدر اهتمام، لكونه مشروعاً سينمائياً تسبقه شهرته من ناحية التسويق والإنتشار، مع الفارق طبعاً بين الرغبة في تطويع العمل الأدبي ليخدم نجاحاً تجارياً ما، وبين توظيفه لتوسيع أفقه وما يحتويه من غايات أدبية أو سواها، لكن الأساس في الموضوع هو أن النقل عن الأدب لم يكن أمراً عابراً ولم يتوقف على تيار معين، لأن السينما دائماً بحاجة لهذه الأنواع والأجناس الأدبية.
في فيلم «الملك لير» يقدم لنا المخرج البريطاني ريتشارد إير معالجة سينمائية متميزة لنص مسرحية شكسبير بنفس العنوان، يزيد عمره على أربعة قرون، تم إنتاج الفيلم من قبل BBC)) في 2018، ويظهر الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز ذو الثمانين عاماً بدور الملك «لير» كديكتاتور عسكري، تحتشد قلعته بالجنود وأسلحتهم وبعيداً عن مظاهر الترف والملكية الناعمة وأناقة الخدم، يتم التركيز على الجانب السياسي من النص المليء بالأوامر التي تعبّر عن أهواء شخصية لا تخضع لمنطق، وتصدر عن عقلية ترفض الاستماع للنصح، ولا ترضى بغير النفاق والمداهنة والخضوع التام.
عمل المخرج على تكثيف النص والتركيز على المعاني القوية والحبكات المعقدة، والحفاظ على الأبيات الشعرية كما كتبت بلغتها القديمة وبمفرداتها الأصلية، يلقيها «إدموند» في الدقائق الأولى من الفيلم متوجهاً إلى الكاميرا وكأنه ينظر بشكل مباشر في عيني المشاهد، وكذلك يفعل «إدغار» في نهاية الفيلم، وتُظهر «لير» في بداية الفيلم وهو يدخل إلى قلعته القديمة بمشية مسرحية وصوت مهيب، فيبدوان أمامنا الثراء والمتعة الفنية الرفيعة في صورة واحدة، من خلال الحركة أمام الكاميرا وليس معها، كما في الحدث الذي يحتل الزمن وليس في الزمن ذاته. وإن كان تجسيد هذه الشروط والمزايا يصير إبداعًا يقل مثيله في سينما اليوم، فإنَّ ما يوازي هذا الإبداع هو عدم كسر المخرج للقوالب المسرحية، بل التمسك بالثقل الدرامي الكبير الذي جسدته مسرحية شكسبير.
المزاوجة بين القديم والحديث كان واضحاً طوال الفيلم في اللغة وأماكن التصوير والمباني والأثاث والأزياء، ومن خلال توظيف الألوان والإضاءة لتضع المشاهد في زمن غامض بين الماضي والحاضر. وتضعنا افتتاحية الفيلم وسط أسلوب خاص في العمل، من حيث الاعتماده على التعابير غير المباشرة وعلى الدمج بين المؤثرات الغربية وبين البيئة التاريخية والتراثية، ما يضيف لقيمة العمل الأصلي بالمقدار الذي ينشّط فيه النص الأدبي ثراء لصورة وهويتها.
لا بد أنَّ هوبكنز يحب هذا العمل ويستمد منه ثقته وحيويته في التمثيل، فقد قام سابقاً بأداء الملك «لير» على المسرح القومي عام 1986، حينما كان في السابعة والأربعين من عمره، بإخراج دافيد غير، أما الآن وهو في سن الثمانين فلا يمكن أن يلائمه الدور أكثر من ذلك، وربما ليس هناك من هو أجدر منه وأقدر على إتقانه، خصوصاً من ناحية النطق والتنغيم وإلقاء الأبيات الشعرية بأداء عميق مذهل، فلدى هوبكنز أسلوب تمثيلي يستعصي على التحليل، وقد اعتمد في أدائه للشخصية على العينين والصوت، وتحديداً الصوت الذي كان لافتاً استخدامه له بمهارة، سواء في زئيره وغضبه وصراخه، أو في ضحكه وبكاءه وتقطع أنفاسه، وحتى في مشهد موته.
خصال الحسد والضغينة وحب السلطة، الجنون والتيه كما الإخلاص والتفاني، بقيت على حالها كما وردت في نص شكسبير، كونها عناصر درامية وإنسانية، ولكن المخرج أظهر هذه العناصر للعلن بطابع ملحمي وشاعري ليأخذ الفيلم جمالاً من الصعب وصفه، ودلالات تساعد غير المنظور من الأفكار وغير المسموع من التفاعلات النفسية على البروز، فتسمع أصوات كل تلك العناصر الحية بثراء جديد فوق ثراء المشاهد السابقة. وللحظة تشعر أنّك تشاهد لوحات عن قسوة الإنسان وقسوة الحرب وقوة الموت. مشاهد تجسيد مرعبة لتلك اللحظات التي تبدأ وتنتهي سريعًا لكنها تدوم، داخل الحي – الميت، زمنًا يكفي لضم العالم في صور وذكريات. فهناك لحظات قد تكون فارقة في حياة الإنسان ويكون قرار الفرد في تلك اللحظة سبباً في تحديد مصيره. والمسرح حياة للبشر ونموذج للدنيا التي يعيشها الإنسان بكل مقتضياتها وجوانبها، والصراع هو المحك والمحور الذي تدور حوله، تلك اللحظات التي يأخذ الإنسان فيها موقفاً أو قراراً ويتجاذب كل من الموقفين تلك الشخصية، حتى يقرر وبناءً على هذا القرار يتحدد مصير الإنسان. فهناك صراع بين الخير والشر أو صراع بين الحق والواجب أو صراع بين العدل والرحمة أو غير ذلك.
ويبدو أنّ شكسبير كان معجباً بالتراث الشعبي القديم، حتى أنّه أخذ مسرحيته هذه من العهد القديم فى العصر الإغريقي، الذي يحكمه الملوك المتسلطين الدكتاتوريين أصحاب السلطة المطلقة، في ظل زمن تعددت فيه الآلهة وخضعت العقول لكثير من الخرافات، ولكنه أراد بهذه المسرحية أن يبعث برسالة احتجاج إلى ملوك عصره في أوروبا خلال القرن السابع عشر، الذين لا يعترفون لشعوبهم بحق التعبير والحرية في الرأي، فكانت المسرحية آنذاك تعكس واقعاً سياسياً في زمن وليم شكسبير، وتنذر بقيام ثورة شعبية وزوال الملكية ونهايتها.