تمثال متحف الخراب

محسن الذهبي

استيقظت في ليلة تموزية ملتهبة .. لأجد نفسي قد أمسيت تمثالاً لشاعر بعيد كل البعد عن ذنوبه .. عن حماقته الكبرى بالاحتفال وحيداً مع ((تخوت)) المقاهي، بانتهاء قصيدته المؤجلة منذ عرف آخر الضحايا الصعاليك ((للمثال )) الأعرج الذي أركنني في صالة عرض بائسة منسية وفي ركن منعزل من أزقة مدينة رسمت ملامحها بصمت بارد قاتل للأعصاب مخدر بترويض الأسد الرابض في ذاته وجعله خروفاً لا فروة له. 

مركوناً أستقبل الصباح في الساعة الثامنة وهو يطرد الذباب عن وجوه النساء الجميلات. وفي العاشرة يصل العالم إلى نهايته ويموت السبت بلا تاريخ ليدفن في مدافن المجوس الممحوة من خارطة المدن المعلقة على جدران دائرة البلدية المحلية. مدن أزقتها لا تعرف اسم المحلة أو ضابط أمنها من ضابط إيقاع حياتها المغلقة على كل جهات العالم، تحيط بها أسوار ترتديها درعاً لا يقي من رصاص لعب الاطفال .. هذا ما أرخته الحروب فيها وفينا وهذا ما كتمته أصابع ((المثال )) الأعرج الذي عانى ما عانى في رسم خريطة وجهها العابس بحب وهو سكران حد الجنون، حتى إنه نسي أن يرتدي سرواله القصير المثقوب من الخلف بفعل احتكاكه بأرض الاسفلت الصلب المفروش على أرض المكان والممتد من جنوب النهر حتى جنوب القمر الغائب منذ عشرات السنين ونيف، لحظة أكمل يدي المقطوعة أجلسها على الكرسي الفارغ، فتطاولت لتمتد إلى مفتاح الضوء تغلقه كي يكمل صديقي عمله على أضواء نجوم غاربه، يصرخ بي – المثال- ويده على قلبه المصاب:- 

– لن تضئ المدينة نجمة، سرقوا كل النجوم !!!.

بتمهل تمتد اليد المقطوعة تسرق نجمة صغيرة مخبأة تحت حجر قديم ثم تضئ المصباح.. فنكتشف ويا هول ما اكتشفنا .. أربعين عاماً وعشرين هاوية وحبيبة واحدة …

نتذكر الخميس فنغطي وجه المدينة بالحيرة، أهمس مع نفسي خوف أن أسمعها فلغتي ما عادت أليفة، أهذه ساحة للحب أم للقتل؟ وهل جسدي ساحة للأحلام المقتولة؟ . يسقط الظل فوق صورة الجسر فيعرف وقتها أن الجسر الذي عاشرته عمراً وخبرته لم يعد قادراً على إيصالي إلى الضفة الأخرى .. إلى الدروب الضيقة والمنازل المتلاصقة حد الاحتضان . تزداد المسافة التي تفصلني عن المدينة فتكبر مع الورم الذي يكبر بين الأضلاع كل لحظة ليولد من مخاض الألم تمثال آخر يسرق بريق بقائه من هندسة الشوارع التي تدوس كل أحلامنا، أزقتها سرير من الدروع البشرية المضحى بها على أبواب مدن لا يعرف الجنود أسماء شوارعها.

لحظتها ولد هذا التمثال الصغير المنشطر من خاصرة عند جيب سترتي الذي ملأها – الفراش المتكاسل- ببقايا أعقاب السجائر والأوساخ عاجزاً من أن يلقي بها في سلة المهملات التي لا تبعد إلا خطوات من كرسيه المهترئ، فأودعها جيبي الأيمن القريب إلى يده اليسرى والتي اعتاد استعمالها في اطلاق النار عند حروب لم يعرف بالتحديد بدايتها لكنه ظل يحلم وهو في فراش الزوجية بانتهائها . والعيش أياماً فقط بلا حروب في مدن لا تعرف لغة الصواريخ ولا تخترق بكارة سمائها طائرات عند الهزيع الأول للفجر.

لحظة ولد فعلاً هذا التمثال وهب واقفاً قربي، كان صغيراً غير مرئي أحياناً للذين لا يلبسون النظارات الطبية المكبرة للأشياء الواضحة، ليقف لصيقاً بي، يكبر سريعاً وفي برهة من الوقت الضائع والمضيع في الأشياء المهمة واللاشئ. أحس بالقرف من مجاورته.. فأنظر صوب تعملقه المدهش لأدرك مقلوباً صغري أمام حجمه الفأري، أنظر مع ذاتي فتتلاشى عندي لغة القياس ومدياتها .. فأتلاشى معها .. أذوب .. لأنتهي إلى أصغر الأشياء إلى ما يشبه ما يسمى – بلا شئ – فعلاً.

ذلك ما أرادوا لخلق نهاية لي .. ولمكاني في متحف المدينة المهجورة ساعة فرَّ أبناؤها إلى الخلاص المموه بالطين … الطين الذي يغطي الوجوه ونوافذ السيارات والبيوت ذلك الزمن الراجع برغم أنفه إلى الطين. تلك نهايتي التي رسموا وبلا فضائح – على ما ظنوا – وبأحدث وسائل التدمير أو حتى من دونها فأمروا – الفراش المتكاسل – أن يؤدي هذه المهمة القذرة.

على القاعدة المرمرية كان اسمي مكتوباً بخط سيئ، والمسافة الممتدة بين اسمي واسم ((المثال)) فراغ هائل، يصلح لإحتضان مئات الآلاف من الأسماء الأخرى كتماثيل مركونة في متحف الجفاف والهجران. مع الفجر تنشط يد – الفراش – المهمل في عمله في (جلف) إسمي بالماء الساخن والأسلاك المعدنية، عشرات المرات في محاولة يائسة لمحو معالم الاسم، كان أمله أن يمحى ليضع مكانه علامة بأحدث مكائن الطبع والحفر على الحجر تعلن بأن التمثال قد ذاب في زمن الضرورة وأن التماثيل التي تذوب لا تدوم ولا تقاوم عوامل التكيف مع ما حولها تاركة مكانها لتماثيل القادة العظام مجتمعين بقائد واحد للبقاء إلى الأبد تربض بكل فخر مضحك على مداخل كل القاعات والصالات وحتى البيوت وغرف النوم والمراحيض ضاحكة بعبوس وجه سجان لم يغسل وجهه ندى الصباح.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة