يوسف عبود جويعد
رواية (دخان المرافئ) للروائي إسماعيل سكران، تضعنا في واحد من الانماط السردية الأدبية الروائية، الا وهو الرواية التاريخية، حيث يجد الروائي ضرورة أن يضيء لنا حقبة زمنية حرجة وصعبة وقاسية ومؤلمة، حدثت إبان الاحتلال العثماني والاحتلال الانكليزي في وقت واحد لهذا البلد والمواجهات الحربية والقتالية والمعارك التي دارت بينهما وسط البلد والمعاناة الكبيرة التي جرت على ابناء هذا البلد جراء هذه الحرب من تهديم المنازل وموت النساء والاطفال والشيوخ إثرها، وكذلك دفع الشباب للمشاركة في هذه الحرب التي دارت بين الطرفين عنوة، ونقل لنا وجه الحياة قبل أن تنشب الحرب، وحركة الشخوص وتنقلاتهم داخل متن النص، تمهيداً لوصولهم لأتون نيران هذه الحرب المشتعلة، من خلال حركة الاحداث، التي مهد لها الروائي كنسيج يتداخل ويتحد ويتفاعل بشكل تلقائي ودون أي إقحام، ليشكل حبكة هذا النص، حيث نتابع حياة عبد الفتاح الذي يعمل تحت أمرة قادر باشا، وهذا العمل ورثه عن ابيه بعد وفاته، وقد منحهم قادر باشا بيتاً من الطين في بستان على ضفاف دجلة، وفجأة يطلب من عبد الفتاح أن يسافر معه الى الكوت، لإدارة أملاكه هناك ويكون أميناً عليها، بينما نتابع أيضاً حياة مكية وابنتها نازك في البصرة، والتي قررت بعد صعوبة الحياة فيها أن تسافر هي وابنتها عن طريق البحر الى الكوت، حيث تلتقي بأحد معارفها هناك هو صبري السراج الذي سوف يؤمن لها مسكن عن طريق قادر باشا ومن املاكه، وهكذا نجد أن دائرة الأحداث كانت تدور في ثلاثة اماكن، بغداد، الكوت، البصرة، ثم تنحصر البنية المكانية لتكون الكوت فقط، لنصل الى البؤرة الرئيسية والمركزية التي عمل على ايصالها الروائي، والتي نقل لنا هذه الوقائع التاريخية من أجلها، وكذلك الثيمة حيث تجتمع هذه الاحداث، والتي سنكتشف لاحقاً أن الحرب الطاحنة التي سوف تدور رحاها بين العثمانيين والانكليز سيكون مركزها الرئيس الكوت:
(وحملت صرة ملابسهما المعدة منذ الليل، تسللت من الدار خلسة، متجهة إلى مرفأ البصرة حيث ترسو السفينة(بصرة)، والتي بدأ صوت محركها يزمجر، وصوت صفارتها يمزق سكون الفجر، ويوقظ عمّال الميناء،. وصلتا – مكية وابنتها نازك- بالقرب من السفينة(بصرة)، والتي كانت محملة بالبضائع، من الحبوب والتمور والأخشاب، وهي تتجه نحو بغداد. قررت مكية وهي مترددة، حين استقرتا في أحد عنابر السفينة، أن تذهب الى مدينة الكوت، حيث يمتلك الباشا قادر خاناً هناك. ستلجأ اليه، فهو يعرفها. ستطلب حمايته، لن يبخل بذلك فهو رجل ثري جداً وشهم جداً، وستذكره بخدمات زوجها الذي مات وهو في خدمته.) (ص 27 ).
وسنكتشف أيضاً بنية العنونة التي تعتبر عتبة نصية موازية لمتن النص، كون أن الاحداث التي تدور هي وسط مرافئ البصرة والكوت، وأن الدخان لم يكن ناتجاً عن السفن الغادية والآتية، بل أنه دخان حرب ضروس دارت في رحى هذه المرافئ، وهكذا ندخل أجواء الحرب بشكل تدريجي، حيث إن العثمانيين يحتلون الكوت ويجندون ابناءها لمواجهة الانكليز، ويجتاح شبح الحرب نفوس أبناء هذه المدينة، ويخيم الخوف والقلق بديلاً عن الأمان والاستقرار، تدور أحداث، تساهم في شد الاحداث منها زواج عبد الفتاح من مكية، وحب نازك لصبري السراج:
(جلس الجنود العرب، لفتة دلي، ومحمد علي أدريس، وأحمد الراضي، وعلي الهندي، وصبري السراج جنب بعضهم في الخندق الذي حفروه أمام ربيئتهم ممسكين ببنادقهم وهم يترقبون الطريق المؤدي إلى الجسر الخشبي، فيما استنفر الضباط قواهم بعد أن وصلت تأكيدات حول زحف الجيش الإنكليز بقيادة طاوزند نحو الكوت. تواصلت البرقيات العسكرية، فكان الذعر يدب في قلوب الشبان المجندين الذين تسمروا في الخندق المواجه للجسر.) (ص82 )
وهكذا تشتعل الحرب بين دولتين كبيرتين العثمانيين والانكليز، في مدينة متعبة نخر الجوع والفاقة بطون ابنائها، وبيوتها معظمها من الطين أو ايلة للسقوط بسبب قدمها، وسوف نشهد لاحقاً قصفاً عنيفاً، وسقوط قذائف ثقيلة عليها.
أن اللغة السردية التي استخدمها الروائي في تدوين هذه الاحداث هادئة لكنها تضمر عاصفة هوجاء يكتشفها القارئ وهو بتابع حركة الاحداث، ولم يغفل أي تفصيلة مهما كانت بسيطة تخص الحياة وسط هذه الحرب، واهمها صعوبة الحصول على الطعام، وتشتعل الحرب وتتساقط القذائف فوق البيوت، وتخسر هذه المدينة الكثير من ابنائها داخل هذه المعارك التي دارت بين البلدين داخل بلدنا، وتتهدم بيوت شخوص الرواية، ويساق عبد الفتاح كرهينة من قبل قوات الاحتلال الانكليزي مع عشرين شخصاً من أبناء المدينة للضغط على ابنائها للتعاون معهم، وبعد انتهاء هذه الحرب، ينتقل عبد الفتاح وزوجته مكية، مع صبري السراج وزوجته نازك الى بغداد منطقة الدهانة، وهم يعملون مع عبد القادر باشا.
لقد تمكن الروائي إسماعيل السكران، أن ينقل لنا وقائع تاريخية مهمة من حياة هذه البلد بتفاصيل واقعية صادقة، بعيداً عن المباشرة والتقريرية التي يلجأ اليها بعض الرواة لنقل مثل هذه الوقائع، كما استطاع أن يزج القارئ في ذلك الزمن من الماضي، بكل تفاصيله، والحياة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لتكون واحدة من الروايات التي نقلت لنا وقائع وحرباً دارت، تركت أثارها على نفوس ابناء المدينة.