بلاغة السرد في (نوهدرا)

د. عبد الكاظم جبر

   في السرد الروائي الحديث ثمة مَن بحث عن (المدينة الظلّ)، المدينة المتخيلة، كما فعل (لؤي عبد الإله) في روايته (كوميديا الحبّ الإلهيّ)، فاصطنع (الحديقة الإنكليزية)، وكما فعل حميد المختار في روايته (صحراء نيسابور)؛ بيد أن (نوهدرا) لم تكن المدينة المتخيلة، بل هي المدينة الواقعية ذات الحمولة الحضارية، وقد اصطنعها الكاتب رمزًا عراقيًّا  عظيمًا توكأ عليه في إطلاق أمله المنشود، على الرغم من أنه لم يذكرها مرة واحدة في روايته، فهو، إذن، يطالعنا بعتبة العنوان بشيء من الغموض والإبهام، ويحمّل المتلقي مسؤولية الكشف والتأويل، بل لا بدّ له منهما، لتتحقق بلاغة السرد الموسّعة، بمطابقة مقتضى الحال.

   و(نوهدرا) رواية عراقية للأديب (كريم محسن الخياط)،  صدرت عن دار تموز، بطبعة ثانية هذا العام، وهي رواية قصيرة، من القطع المتوسط، بـ (128) صفحة، واضحة في لغتها وأسلوبها، لولا شيء من أخطاء الطباعة أو العجلة، تقترب من فن السِّير والرحلات، أو تمتح منهما. وتدور أحداثها في التاريخ المعاصر، وقد عرف الكاتب كيف يتعهدها، وكيف يهتبل المناسبات؛ ليعرض لرؤاه وأحلامه المقموعة، وعمره المسروق، وهو، بذلك، يعرض لرؤى الجماعة وأحلامها وعمرها، ولا غرابة في أن تتجه عنايته بشخوص روايته الذين ضيّعتهم الحروب وملابساتها، وجمعتهم مقاعد الدراسة الخارجية، فالرواية، إذن، تتخذ ممن تركت الحروبُ العبثية والطائفية آثارًا في نفسه، وصدّعت روحه، و قد حاولت رأب الصدع وترميم الذات من أجل النهوض، بمعنى أنها تبنت فكرة (الصيانة بعد التدمير)، وتندرج شخصية البطل في ضمن نمط الشخصية الإيجابية التي تحمل رؤية أممية، مستعينة برمز حضاري إلى حدِّ أن يكون الرمز هو حكاية البطل (الراوي) نفسه.

   والرواية نافذة ببلاغة السرد فيها، بما انطوت عليه من أصناف الإحالة والترميز والتبطين والإرفاق، وفتحت آفاقًا دلالية متسقة، تدعو المتلقي إلى أن يمارس دوره في ممارسة فعل القراءة، فهي تعزف على البعد التأويلي الذي تتركه في المتلقي في أثناء القراءة ومحاورة النص، والبنية الروائية، عمومًا، بنية احتمالية لا تعرف قانونًا شكليّا ثابتًا، كما يذكر المعنيون بهذا الفنّ، وما يُطلق عليه بلاغة التجربة هو ما ينبع من خصوية تشكيلها هي. وتقوم (نوهدرا) على رمزية كبرى، إذ تشتغل على الإحالات التناصية، فحكاية بطلها القادم من بابل إلى دهوك- حيث نقطة التقاء الجماعة المتعددة- تتناص مع الأسطورة الآشورية التي تحكي قصة البابليّ الذي نقل عيد (أكيتو) من بابل إلى دهوك، التي هي (نوهدرا) بالسريانية، الضاربة في أعماق ما قبل التاريخ… (نوهدرا) المتعددة في دياناتها وقومياتها ولغاتها، ليصبح ذلك العيد رمزًا للخصوبة والتجدد بحسب الميثلوجيا الآشورية القديمة، ومنها  ذاع في الآفاق ليعمر ربوعًا أخرى، بمسميات متعددة. وينتمي هذا المكان إلى ما أسماه جيرار جنيت (الحيز الإيحائي)، لما يكتنزه من دلالات حضارية، وينتمي لهذا الحيز فيها أيضًا كهف جورسين ذو الأعمدة الأربعة، الذي اجتمعوا عنده، في آخر المطاف، في الجبل الأبيض، ليكون إيقونة وعلامة سيميائية في النص، وهو ما يناظر اجتماع اللغات الأربع (السريانية والكردية والتركية والعربية)، إذ كان الأصدقاء قد رفعوا أصواتهم بالغناء بروح تجمع هذه اللغات- في كهف، في جمجمة العراق، في الجبل الأبيض- فهو يشتغل على طرح الصورة الكنائية الرامزة، وإن بلاغة الصورة، كما يقول الحكيم الصيني كونفشيوس: ” خير من ألف كلمة”، ثم أنها كانت (توقيعًا) ختاميًّا مرهف الحدّ، بالغ الأثر، ولا يفوتني القول إن هذه الأعمدة الأربعة في هذا الكهف، تستحضر في الذهن استحضارًا مقلوبًا (الأركان الأربعة) في رواية (العيب) ليوسف إدريس، فمثل هذه الأمكنة ليست عناصر محايدة، بل عناصر مشحونة بالدلالة.    .

   وإن امتزاج الشخصيات بالعمل الروائي، كما يذكر علي جواد الطاهر، يعطيها صفة شاعرية، فهي ليست موادّ بناء فحسب، بل إنها عناصر مهمة، وهي ما تشكّل مجتمع الرواية المختلف في الديانة والعرق واللغة والآيديولوجيا، وفي الحضور، وتوقيت الحضور والغياب والاستبدال. فليليان – مثلًا- الفتاة الحبيبة الخمسينية تذكرنا بـ (فيرمينا) في رواية (الحبّ في زمن الكوليرا) لماركيز، التي تعشّقها (فلور نتينو)، في زمن المراهقة، لكن الحروب في منطقة الكاريبي وما رافقها من تبدل الأحوال حالت دون زواجهما، لتتزوج من طبيب لامع، ويكون لها منه خلَفٌ، وبعد وفاته، يعود إليها ويرتضيان أن يكونا صديقين سبعينيين، ثم تدور الأحداث في سفينة أدعيا أنها موبوءة بالكوليرا؛ ليختليا إلى بعضهما في تبادل الأحاديث التي تقلل من ثقل الشيخوخة. وعندي أن هذه الحبيبة الكردية هي رمز لكردستان، فلو أننا استبدلنا كردستان بـليليان لم يحدث تغيير دلالي ذو أثر، وأنها في ذلك مثل فاطمة في رواية ( الرصاصة لا تزال في جيبي) ليوسف إدريس، ففاطمة ماهي إلا مصر، كما يرى بعض النقاد.

     وغياب صديقه الحاضر في ذكرياته وأحلامه؛ آزاد الكردي المسلم المتعصب لكرديته، في زمن الرواية ومكانها؛ عوّض عنه، بدهاء، بشابين كرديين متغالبين، أحدهما بادنياني والآخر سوراني، في إشارة منه إلى أنصار الحزبين الحاكمين في كردستان، ليبعث ما يُعرف بـ (صورة التعويض) التي تجمع بين (الوصل والحذف). وكان حضور لاسو الأيزيدي حضورًا طفيفًا، وهو ما فيه إشارة سياسية واجتماعية بالغتان.  

    وقد تضمنت الرواية أخبارًا خرج قسمٌ منها لغرض الإفادة، وخرج قسمٌ آخر منها للازم الإفادة، في كثير من مفاصلها، وتركتْ للمتلقي أن يتحمل مسؤوليته في فهم ما تريد، كمقاطع (الفلاش باك)، والقصص في المنامات التي اصطنعها، ويرى عبد الإله أحمد أن القصص التي هي من هذا النوع تكون “بمجملها دعوة للأمة للنهوض ومحاولة دؤوبًا لتلمس النواقص الاجتماعية ورسم الحلول لها”.   

     والرواية تنطوي على توريات كثيرة، منها تورية الأوقات، كيوم توجهه من بابل ليبدأ الرحلة، فقد كانت في يوم (29 / تشرين الثاني/ 2008م)، وكون هذا اليوم هو اليوم الذي يسبق اليوم الأخير، من الشهر الذي يسبق الشهر الأخير، في هذه السنة؛ يتضمن تورية عمّا سُرق من عمره، بيد أنه عازمٌ على استئناف الدراسة، في الوقت الذي هو (بدل من الضائع المسروق). ومن التوريات المهمة تورية اللغة، فاللغة فيها لا تعني ظاهر معناها، فهو لا يريد بها ما يلوكه اللسان من كلام، بل إنه يريد بها كلام العقل، من أجل  التفاهم والتواصل، فهي، إذن، السبيل إلى الوئام والسلام والنهوض، وكم كان حريصًا على النجاح والفوز بها، في حين أخفق فيها من يحرك لسانه بها دون عقله!.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة