حساسيّةَ المغايرة / بلاغة النص في “نتقاتل للتسلية”

عبد علي حسن

تنطوي عملية التحول البنيوي لأيّما مجتمع على أعادة الاصطفاف في القوى الاجتماعية المختلفة ، بما في ذلك تبادل الأدوار أو ظهور قوى اجتماعية جديدة. ويستجيب الأدب لعملية التحول تلك عبر استحداث ممكنات تعبيرية جديدة تتناسب والمضامين الجديدة التي تفرزها فعّالية التغير الاجتماعي تلك. ووفق جدلية العلاقة هذه بين المتغير الاجتماعي والأدب يظهر الجيل الأدبي الذي يعيش مخرجات الواقع الجديد فيتجاوز الأشكال القديمة ويجترح الشكل الجديد الذي يتّحد مع المضمون الجديد ، فقد حصل ذلك في كل الحركات الأدبية التجديدية والتحديثية في المجتمعات التي شهدت ذلك التحول في البنية الاجتماسياسية ، ولعل ظهور حركة شعر التفعيلة في خمسينيات القرن الماضي في العراق. ومن هؤلاء الشعراء تفرّد كاظم خنجر في الاجتهاد بتقديم نصوص تتجاوز المألوف ومحرّضة على الوصول إلى حقيقة الشعر بالذهاب إلى أبعد منطقة تعبيرية تجعل المتلقي يتحسس جسده وذاته وواقعه على نحو شعري صادق ، إذ تضمن كتابه الأول (نزهة بحزام ناسف )/ ،2016 ,/دار مخطوطات/ هولندا ، أغلب نصوصه التي اقترنت بتجربة النص الأدائي ، وقد اتضح ذلك النهج الأدائي الجديد في عدد من الفعاليات الشعرية التي أقامتها جماعة ميليشيا الثقافة في عدد من الأمكنة التي شهدت حالات انتهاك الوجود الإنساني العراقي من قبل الجماعات الإرهابية المسلحة كانفجار المفخخات والعبوات الناسفة وعمليات القتل والذبح وغيرها داخل الوطن ، كما اتضح أيضا ذلك النهج في الفعاليات الشعرية للفنون الأدائية خارج الوطن ، فرنسا على وجه الخصوص ، عبر قراءة نصوص شفاهية صاحبتها حركات وأفعال مسرحية عزّزت من إمكانية توصيل المعاني الجديدة المقترح بأسلوب يتجاوز اللغة إلى الإشارة والفعل الجسدي للوصول إلى فهم مشترك ، بينما اتجهت نصوص كتابه الشعري الجديد ،( نتقاتل للتسلية) 2020/ دار درج /بغداد ، إلى الامتداد على مساحات تعبيرية اتصفت بشمولية المعنى المنتج والمستخلص من الحالات التي عالجها في نصوصه ، إلّا أن أسلوب كتابته للنص ظلّ كما هو اعتماداً على موجهات قصيدة النثر في نسج بلاغة نص اتصفت بالوحدة العضوية والموضوعية ، إذ أن بلاغة النص هذه قد قطعت الطريق امام بنية الانقطاع والتجاور التي اتصفت بها نصوص الشعرية العراقية في العقود الأخيرة من القرن الماضي ، وبذلك فقد حققت نصوص كاظم خنجر في كتابه الشعري الجديد واحدة من الموجهات الإجناسية الضرورية في كتابة قصيدة النثر ، وأعني وحدة النص وفق موجهِ بلاغي تمكن من توليد المعاني المتجاوزة سطح الواقع وحركيته ، فضلاً عن تحقق قدرة النصوص في تثبيت شمولية التجربة الإنسانية عبر الحالات الخاصة التي عالجتها. وقد تحقق ذلك في النصوص الطويلة أو القصيرة التي تضمنها الكتاب ، وهذا يعني أن نصوص كاظم خنجر في (نتقاتل للتسلية) تجربة جديدة ذات أفق إنساني تماهى كثيراً مع التحول الحاصل في بنية العلاقات الاجتماعية والإنسانية ، فقد امتازت النصوص القصيرة بتكثيف التجربة واختزال اللغة لتقديم مشهد تصويري مدرك بعيدا عن التجريد الذهني المتّبع في تشكيل الصور الشعرية ، فالمتلقي يجد نفسه أمام مشهد يستعير الكثير من مفردات الواقع ليعيد إنتاجها بصور جديدة وملفتة لأهمية الحالة التي دخلت في علاقة استعارة ، لنقرأ مثلا:

(قبري الفارغ الذي يشعر بالوحشة في

 الليل

 أصحبه معي إلى السرير

 وأنام بجانبه)

 فالنص السالف مركّب من عنصرين دخلا في علاقة لا تنفصم بين الشاعر والقبر المُنتظر الذي يشعر بالوحشة التي جعلت الشاعر يصحبه معه إلى الفراش لينام بجانبه ، ليؤكد العلاقة المحتومة بين الإنسان والقبر ، والمشهد الذي كوّنه النص انتقل بالمفهوم الواقعي المنطقي إلى ومض شعري بليغ ، كما ونقرأ في النص التالي:

(الآن في الغرفة وحدي

 اطوي قلبي وافتحه

 كفراش طفل ميّت)

 فتشبيه حالة القلب بفراش الطفل الميت

 قد حقق غايتين ، الأولى حالة القلب القلقة بين الطوي والفتح ، والثانية حالة فراش الطفل الميت المكتنزة بالدلالة لعل اقربها غياب مرح ولعب الطفل الميت وخلو فراشه منه. وقد تمكن النص من تخليق علاقة غريبة وجديدة بليغة بين عنصري التشبيه ، وفي النص الثالث الآتي محاولة لمقاربة الواقع العراقي المعاصر:

(أنا في العراق

 مجرّد شرطي مرور

 ينظّم سير السكاكين على جسده)

 فالمشهد الذي يرسمه النص يقدم صورة مرعبة ومخيفة وبليغة لما آلت إليه الأمور في العراق وما يتعرض له من تقطيع في الأوصال ، فالشاعر هنا يراقب بأسىً بالغ ماتفعله السكاكين بوطنه، ولا حول له ولا قوّة في دفع ما يجري من مساوئ ، ولا يملك سوى توزيع تلك الطعنات على جسد الوطن الذي استباحته السكاكين .

لقد تمكنت النصوص القصيرة التي تضمنها ( نتقاتل للتسلية) والتي أوردنا منها النماذج الآنفة الذكر ، من امتلاكها توصيف النص الشعري القصيرة عبر بنائيتها المختزلة والمكثفة للتجربة الحياتية واكتفائها الدلالي، وقد أسهمت اللغة المتجاوزة بوظيفتها النفعية على الرغم من نثريتها ، من تخليق معانٍ جديدة وبليغة ، أما النصوص الطويلة نسبيا ، فقد شكّلتها البنية السردية ليس بنيّة القص وانما لتأكيد سردية قصيدة النثر بعدها نصاً نثرياً بالأساس ، إلّا أن الشاعر جنح إلى شعرنة النثر ليخلق معنى تؤثثه لغة النص النثرية /السردية ، حتى أن التسطير الذي بنيَ النص وفقه ، فإنه ابتعد عن بنية البياض المتحققة في نهاية الأسطر كما في النص الشعري ، إذ أن هنالك تواصل سردي يتابعه المتلقي بشكل متلاحق ولا يتوقف عن

هذه الملاحقة والمتابعة حتىٰ نهاية النص ، كما في النصوص الآتية:

رأيتُ ابنة خالتي التي أحرقت نفسها

 من اجل شخص تحبّه

 في شتاء 1999

كانت وحدها تحمل النار وتركض بها

 في الشوارع

 منذ ذلك

 وأنا احملُ النار وأركض بها في الشوارع

 وحدي )

ففي النص السالف تتبدىٰ البنية السردية على نحو واضح ، إذ أن الجمل التي اتخذت وضع التسطير قد تكفّلت بتدفق وتراتبية المشهد السردي للمرأة التي أحرقت نفسها ، ومن ثم كانت سببا ليحمل الشاعر هو الآخر نار عشقه ، وعلى الرغم من التناص غير المباشر لوضع ركض المرأة وهي تحمل النار مع الحادثة المعروفة عن الصوفية رابعة العدوية ، فإن النص قد تمكن من الإحاطة بتجربة عشق المرأة وانتقالها الى الشاعر ، فالمتلقي لم يشهد فرصة التأمل في نهاية كل سطر ، إذ كانت عملية السرد مسبوكة بإتقان ، مما جعل المتلقي يلاحق التدفق السردي حتى نهاية النص الذي كان بإمكان الشاعر أن يجعل بنائيته وفق بناء الفقرة النثرية التي أفصحت عن شعرية نصية تضافرت الجمل في تأثيثها ،فالشعرية المتحققة في النص قد تجاوزت الانزياح اللغوي إلى الانزياح في توقع قيام الحدث الذي اكتسب الغرابة للوصول إلى أبعد نقطة في وعي المتلقي ، وبذلك فإن بلاغة النص المتحققة قد قدمت تجربة إنسانية شاملة عبر الخاصية الاجتماعية للهيمنة الذكورية / البطرياركية في المجتمعات الشرقية التي تشهد فيها المرأة شتىٰ صنوف القهر والتعسف.

: كما ونقرأ في النص الآتي

 :_ ( أيها السلام

 ياعار الإنسان ووهمه

 ياحارس القاتل والسكين

 اخرج اسنانك من رغيف الفقراء

 ارفع كفّك عن فم الحريّة

 ماعدنا نملك مايكفي من الدم

لحروبك

فالنص يدخل الى منطقة المفارقة الضديّة البدئية ، وعبر هيمنة الوظيفة الإفهامية/ الخطابية يضع النص مفارقته في أول سطر وليس في نهايته كما اعتادت عليه النصوص المهتمة بالمفارقات ، فهو يخاطب السلام ، وما أن نتقدم في تلقي النص ندرك قوة تلك المفارقة البدئية التي كوّنتها الصور الشعرية المنزلية عن الوضع النثري للاستهلاك اللغوي ، فبدلاً من مخاطبة الحروب فإنه يخاطب الـ(سلام) الذي يجدهُ مزعوماً وباسمه تنتهك الشعوب ، فهو سلام القوىٰ المعادية للتقدم البشري والعدو الأول للفقراء. وسلاحها في سعيها هذا هو السلام المزعوم لتثبيت أركانها كما نشهده في منطقة الشرق ، وان المتضرر الوحيد من سلام الحروب هذا هو الفقراء الذين ما عادوا يملكون دماً فائضاً لهذه الحروب.

 لقد تمكنت نصوص (نتقاتل للتسلية) للشاعر كاظم خنجر القصيرة منها والطويلة _التي كانت تحت عنوان

واحد هو العنوان الرئيس للمجموعة والذي امتدَّ لأكثر من دلالة أن تقدم قصيدة نثر حائزة على التوصيلات السليمة لهذا الشكل الشعري الذي كانت غايته الكشف عن شعرية النثر عبر البنية السردية وانزياح اللغة والنص عن المفاهيم والاستخدامات الاستهلاكية والتقليدية ، ليكون بحق من انتاج مرحلة جمعت المتناقضات الإنسانية في ابشع صورها لتحوز على جماليات الكشف عن وعي بالشعر والواقع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة