كان أول ما فكر فيه العرب حينما بدأت ملامح عصر النهضة بالظهور بعث التراث وتطوير اللغة وطبع الكتب وتحرير الصحف. وعدوا هذه الأنشطة ثورة كبرى على الواقع المرير، الذي خلفته الهيمنة التركية الطويلة.
وحينما ألقى ابراهيم اليازجي في الجمعية السورية عام 1868 قصيدته الشهيرة «تنبهوا واستفيقوا أيها العرب»، احتفل بها النخبويون العرب وعلقوها على الجدران، فأصبحت معلقة من معلقات العرب في عهدهم الجديد.
ولم يختلف الحال بعد سقوط الترك ونشوء عصر الاستعمار والدولة القومية، فقد بات الغرب هو وجهة هؤلاء العرب. وأخذت نظرياته وطروحاته تشغل أذهانهم. فانقسموا على أنفسهم بشأنها، وشرعوا يقتتلون حولها دون هوادة.
على الجانب الآخر من الشرق كان الآسيويون يضربون صفحاً عن هذه الأدبيات، ولا يلجئون لإفراغ همومهم على الورق، بل يعملون على تحديث بلدانهم بطريقة عملية. فأنشأوا الشركات والمصانع والمصارف. وأخرجوا طبقة من رجال الأعمال والمديرين الفنيين. وابتعثوا آلاف الطلبة للغرب، ليعودوا محملين بالرغبة في نقل التقنية إلى شعوبهم. وهؤلاء هم الذين قادوا الأحزاب والحكومات في تلك البلدان في ما بعد.
بل إن أحدهم قام باستنساخ جزيرة قريبة منه، وبنى على أرض مماثلة لها كل الموانئ والأبنية والشوارع والمصانع والجامعات والأسواق الموجودة فيها. وجعل منها تجربة متقدمة لتحديث بلاده في ما بعد.
ولست أرى أن الأدبيات العربية، التي حصرت المشكلة في الجانب الثقافي، كانت تقترب من الكمال، أو تجنح نحو الحقيقة. فالعديد منها كان ينتقل من موقف لآخر ومن نظرية لأخرى. حتى أن البعض منها انتقل من «القومية» إلى «الأممية» غداة هزيمة حزيران 1967. وقام غيرهم بتغيير قناعاتهم من «العلمانية» إلى «الدين»، ومن «الاشتراكية»إلى «الوهابية»!
كان الأدب هو وسيلة التغيير الأساسية عند العرب، وهو السلم الذي تسلقت عبره الأفكار المتطرفة، وغير المسؤولة إلى السلطة. وحينما اندلعت الثورات صحبها كم هائل من النتاج الثقافي الذي تبدد بسرعة البرق. فمن منا الآن يستطيع قراءة الأدبيات التي صدرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي حول شروط النهضة وطرق حل المشاكل البنيوية التي أخرت تقدم المجتمعات العربية؟
ليس علينا أن نعول على الأدب والشعر والفلسفة والدين في صنع المستقبل، ولا أن نوكل لها حل ما نعانيه من مشاكل. فهي لا تعمر المدن، ولا تبني المصانع، ولا تشيد البلدان. ولا تملك القدرة على توطين التقنية وتوفير فرص العمل وزيادة الإنتاج. فمهمتها تشبه ما فعل اليازجي في قصيدته الآنفة الذكر حول تنبيه الأذهان إلى وجود مشكلة جدية، غفل عنها الناس لآماد طويلة، وتدفعهم للبحث عما يناسبها من حلول.
محمد زكي ابراهيم
اليازجي.. والنهضة
التعليقات مغلقة