كه يلان مُحَمد
تكمنُ خصوصية الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا ليست في نتاجاته الشعرية وصياغاته المميزة، ولافي لعبته لتقمص شخصيات متعددة وإنتساب أعماله إلى الأنداد فحسب بل تُعد تجربة صاحب (الباب) حالة فريدة سواء أكان على المستوى الإبداعي أو على صعيد حياته الشخصية، فهو لم يتقيدْ بتقاليد مدرسية ولا شللية، كان يرغب في «فهم كل شيءٍ ،معرفة كل شيء ،إكمال كل شيء، التألُم من كل شيء» وماالغاية من الشعر لدى بيسوا سوى تكريس وحدته «كوني شاعراً ليس مطمحي الخاص هو طريقتي أن أكون وحيداً» ولا تعني الوحدةُ الإنكفاء على الذات بل هي محاولة لتخيل أشكال أخرى من الحياة،إذإخترع شخصيات نشر بإسمها القصائد، ألبرتو كايرو، ريكاردو رييش، الفارو دوكامبوش، و إختار لكل شخصية على حدة طبائع وسيرة ذاتية، وهذا يضعنا أمام سؤال هل أراد بيسوا من خلال الإقامة في عدة أسماء أن يعيش أكثر من حياة؟ ربما تقدمُ الحياة الباطنية وتأملات بيسوا الفلسفية تفسيراً عن الهدف وراء هذا الأسلوب الغريب «أن نحيا يعني أن نكون آخر ومن غير الممكن أنْ نحسَ إذا ما أحسسنا اليوم مثلما أحسسنا بالأمس» يذكر أن هناك تناغماً في نصوص فرناندوا بيسوا بغض النظر عن القوالب والصور التي إتخذتها، فهو يشير في مقطع من كتاب (يوميات) الذي ترجمه المهدي أخرف دار توبفال 2017.إلى مسعاه بأن يكون مُتفرجاً في الحياة بدون أن يتورط فيها، وهذه النزعة تجدها في لوحة شعرية بعنوان (الموجة البغيضة) «حكيم من يقنع بالتفرج على العالم وعندما يشربُ لا يتذكرُ حتى إن كان شرب في الحياة» تحمل العبارات تلك رؤية عدمية مخففة بحس الساخر، لا ينتهي دور كائنات مُتخيلة بمجرد نشر دواوين بأسمائها بل تتسللُ إلى يوميات بيسوا أيضاً يمررُ عبرها شذراته الذهنية، وهذا ما يفرقُ يوميات مؤلف (راعي القطيع) عن محاولات غيره من الذين أرخوا لحياتهِم اليومية.
دون النرجسية
إذا كانت كتابة السيرة الذاتية أو المذكرات تلبي رغبة البعض لظهور بصورة مثالية، إذ قد يعمدُ إلى تضمين النصح بين طيات ما يسردهُ من الأحداث والإطناب في الحديث عن العوائق التي إجتازها خلال مسيرته، فإنَّ فن اليوميات بعيد من هذا الغرض، وذلك مايتبين من خلال مراجعة ماسجله الكتابُ في يومياتهم، بإختلاف مشاربهم وجنسياتهم، وليس بيسوا إستثناء في هذا الطرز الفني، يستهلُ هذا الشاعر الريؤيوى بمقدمة ذات طابع فلسفي حيث تستشفُ سخريته بالإنسان وتعاطفه معه في آن واحد إذ يرى بأن الكائن الإنسان ليس أكثر من حشرة تصطدم بالزجاجة قبل دنوه من الضوء، وبرأيه فإن معرفتك بنوع الحاجز الذي يفصلك عن الضوء لايضيف لك شيأئً،وما يجدر بالإشارة في هذا الإطار أنَّ فرناندو بيسوا يعتقدُ بوجود مساحات شعرية في ظواهر الطبيعة وكل تمظهرات الحياة، في البر والبحر في البحيرة على ضفة النهر ،يوجدُ الشعر أيضا في المدينة على قارعة الطريق داخل كل حركة مبتذلة، كما يذكرُ في السياق ذاته بأنَّ الإنسان لابُدَّ أن يكون رائعاً ونبيلاً لأنَّ من يحب الجمال لا يصحُ أن يفتقرَ إليه.تبدأُ يوميات من شهر مارس 1905ممتابعةً من يوم 15 ماراً على مشاغله اليومية من الإلتزامات وقراءاته في لمؤلفات أرسطو في المكتبة وبعض المناسبات العائلية ومرافقته لخالته ماريا، ومن ثُمَّ كتابة قصصه ومؤلفاته في أيام العطلة، ويبدو أن فرناندو بيسوا كان أكثر إهتماما بقراءاته الخاصة إذ يشير إلى شعوره بالملل من محاضرات جامعية وما كان ينتهي من الدروس الرتيبة حتى يتوجه إلى المكتبة مطالعاً الفلسفة اليونانية، وأحياناً يكتفي بنعت يوميه بأنه كان روتينياً أو لم يفعل فيه شيأً، وما يتضح مما يردُ في هذه اليوميات أنَّ الشاعرَ كان يعاني من مشاكل مالية في مُعظم الوقت حيثُ يشيرُ إلى إنهائه من تأليف (الباب) ويحتاج إلى الأموال لطبع نسخ من (لأجل الجمهورية) كما يظهرُ إهتمامه الكبير بقراءة بعض الكتب الفلسفية المؤسسة (نقد العقل الخالص)، (اللامساواة) وشروعه بالقراءة لما طالعه في الطفولة، وفي هذا الإطار يتوقف عند بعض التطورات السياسية ويبدي إعجابه بمن هو أكثر تفهما للفلسفة مثل صديقه (كواردو)،هذا إضافةً إلى ذكر عمله المستمر في مكتب الأخوين حيث يكتب مراسلات بالإنجليزية للمكاتب التجارية، وهذا لم يمنعه من أن تكون لديه مساهمة في إصدار مجلة المسرح بالإشراك مع الشاعر (بوابيدا) لما ينقطع عن كتابة حول أوسكار وايلد، وكان مقهى لابرازيليرا مكانه المُفضل هناك يلتقي بأصدقائه ويتلون على بيسوا نتفاً أحياناً، تنضاف إلى ذلك مُكاشفاته الذاتية « عشفتُ طفولةً هادئةً تربيتى كانت مناسبةً ،لكن منذ إمتلاكي الوعي بذاتي أحسست في بنزوع فطري ،إلى الكذب الفني، مع شغف كبير فضلا عن ذلك بماهو روحاني ،ماهو سري وملغز.» ويدون بتاريخ نوفمبر 1907 أن أفكاره تترك لديه الإحساس بأنَّه مجنون، مؤكداً بأن الكلبي ليس أكثر من فرحان مُتشائم، ويشيرُ بيسوا مرة أخرى في نهاية القسم الأول إلى تساؤلاتِه هل هو مجنون أو موغل في السرية.
توتر
يتبعُ فرناندو بيسوا في القسم الثاني الذي يُغطي أياماً من سنة 1913بدءاً من 15 فبراير إلى 3 من مايو عما تبناه في القسم الأول، غير أن هناك بعض الفقرات تلفت النظر وذلك لإختصارها وماتكشفه من حالة بيسوا النفسية إذ يكتبُ في السبت 29/3/1913 « لاشيء يوم مثل سابقه» فالجملة محملةُ بغضب مكتوم على رتابة الأيام، إلى جانب ذلك يعترف بإهماله ليومياته في أكثر من موضع.وقبل أن ينتقل إلى أيام سنة 1914يوردُ مقاطع بعنوان مذكرات شخصية تعبرُ عما يمور في فكر الكاتب من القلق والتوتر والشعور بالإغتراب معلناً بأن اللذة التي تأتي من الكتب يمكن أن تجدها مباشرة في الطبيعة وملاحظة الحياة،ويعتبر بأن السوسيولجيا ماهي إلا بلاهةً مطلقة، وما هو الأهم في هذا القسم هو إكتشاف مايعيشه فرناندوا بيسوا من حياة باطنية وهو يقول « لم ألمس الحياة أبداً كلما رسَمْتُ إشارةً تحولت إلى حلم» ويعقبُ بالحديث عن علاقاته العاطفية كاشفاً تقمصه لدور الحبيبة في شخصيته وما كان يتخيله من شكل وملامح وجه حبيبته ويستغربُ مما يشعرُ به من الضبابية بينه وبين الآخرين، ويحدثك عن إنتمائه إلى جيل لما يأتِ بعد، شاكياً من برد الروح، وفي القسم التالي يفرق الشاعر بين الفنان والمصطنع فالأولُ يمتلكُ الجرأةَ لذا يتمكن من فتح طريق جديد بينما الثاني على رغم كونه جريئاً لكن لايوجد لديه دافع روحي.
وصفُ الأيام
تأتي فقرات القسم السادس التي تتناول ماعاشه صاحب (نشيد الظفر) خلال سنة 1915 متتالية مع الميل إلى الإختصار كأنَّ يعبرَ عن سأمه أو يكشفُ عن حيادية اليوم ليس بالممتع تماماً ولا بالمزعج،أبانت بعض الجمل عن لامبالية بيسوا «لاشيء غيرمألوف هذه الأيام ماعدا تغيبي عن العمل وعن زيارتي إلى النزل، فضلاً عن ذلك الفقرة المدونةَ في 13/6/1916 تكشف خيبة أمل بيسوا وهو بلغ الثامن والعشرين بدون أن ينجز شيئاً في الحياة مُتسائلاً إلى متى علىَّ أواصل تجربة الفشل»هكذا يضمُ الكتاب قسمين أخرين بعنوان (مخطط العيش ) ومذكرة، إضافة إلى مخطط بيليوغرافي وإيضاحات ومذكرة سرية، إذ مايجمع هذه الأقسام كلها هو الطابع البيسوي وإنشطارها بين ماتترصدُ الإنشغالات اليومية وما تصفحُ عن هموم وتصورات باطنية مُطعمة بالوجد والإشراق الصوفي.