أنّات متنوعة في “أنّات في صدر الثَرى”

يوسف عبود جويعد

في المجموعة الشعرية (أنّات في صدر الثّرى) للشاعر ناظم الصرخي، سوف نرحل مع الخبرة والممارسة المكتسبة، جراء عملية التدوين الشعري، المستمر وطيلة سنوات طوال، إذ إن الشاعر بدأ بكتابة القصيدة قبل الربع الأخير من القرن الماضي، وظل يدور في رحاها وبين ثنايا بحورها وقوافيها وموازينها، وانساق معها وهي ترحل من مرحلة لأخرى، ومن تطور لآخر، ومن تغيير إلى آخر، متمسكاً بالهموم اليومية التي تحدث في محيط حياته، بل إن قصيدته امتدت وبعدت وكبرت واتسعت دائرتها لتشمل واقع الحياة في هذا البلد، وما يمر به أبناء البلد، من هموم وانكسارات وإحباطات وحوادث تتطلب من الشاعر أن ينبري لها ويشرع شراعه ويبحر في هذه الأمواج المتلاطمة أمامه، ليكتب عن الظلم، الشر، الضياع، الفقدان، ويذّكر بالحب والخير والجمال، وتلك المعادلة سوف نجدها في هذه المجموعة الشعرية، التي ضمت نصوصاً شعرية مختلفة ومتنوعة، منها ما يجول في عقل الشاعر وقلبه ووجدانه، ومنها ما يحسه وهو يعيش حياة لا يحبها ولا يريدها، ومنها مع العاطفة والحب، مع الشباب في ثورتهم التشرينية، منها مع الوطن الذي يحسه جريحاً، ويحتاج لمن يضمد جراحه، وهكذا نعيش ونحن نتابع هذه النصوص التي تكاملت أدواتها من وحدة الموضوع، والثيمة، والمفردة الشعرية المنتقاة التي تنسجم وتتلاءم في سياقها مع ما يريد الشاعر أن يوصله للمتلقي، من خلال الانزياحات الكبيرة، والصور الدلالية المعبرة، والاستعارات الفنية، والرؤية الفنية لفن صناعة القصيدة الشعرية، رغم أن الشاعر ضمّن هذه المجموعة القصيدة الشعرية العمودية، وقصيدة التفعيلة، منذ أن خط قلمه أول بيت من الشعر، إلا أن تلك النصوص زخرت بمتغيرات حداثوية كونها استمدت فكرتها من واقع حياتنا اليومية، وما يدور بين الناس، وما يختلج في نفس الشاعر، وهو ينتقل بنا من موضوعة لأخرى، ومن ثيمة لثانية، ومن صورة لأخرى وكلها تطوف طوافاً متصلاً مع الهموم والحياة اليومية.

ولكي نكون أقرب وتجربة الشاعر، ولكي نكتشف ما ذهبنا إليه فعلينا أن نرحل مع عالم الشاعر ناظم الصرخي، ونتابع قصائده، في قصيدة (شَفَق المُعَنّى) الذي يضعنا الشاعر فيها وسط الحيرة والضياع واللاجدوى:

إحْزمْ

مَتَاعك وَارْحَلْ

أيُّها الرّجُلُ

لَمْ تَبْقَ لا ناقةٌ فيها

ولا جملُ

**

غُذَّ الْمَسيرَ ولا تَغصِبْ أَعنَّتَها

نحْوَ الديارِ

فإن الْقومَ قد رحلوا

**

أنّى اتجَهْتَ

رمادٌ في مواقِدِهَا

والدَّربُ مُنْتَهَبٌ والفِكرُ مُنْشَغِلُ

**

مَاتَ الرَّجَاءُ

وقَد سَدّت مَنَافِذَها

واسْتنطقت عَتَباً نَاءتْ بهِ الحيَلُ

وتمضي هذه القصيدة قدماً بانسيابيتها وإيقاعها المحفز المنفعل، وقدرتها على الغوص في نفوسنا واستخراج شحنة الألم التي تعتلينا، ونحن نتابع ما يحدث ونتمنى أن نجد ومضة أمل تخرجنا من هذه الدهاليز، والشاعر يجد أن لا طائل من البقاء وعليه أن يحزم متاعه، وتظل هذه القصيدة تطوف في هذا المنحى المعبر الغائر في عمق الروح، لنصل إلى نهايتها:

وارْغَبْ بِنفسك

عَنْ وهْم جُننْتَ بهِ

مِنْ بينَ أظفارِنَا

قَدْ أفلتَ

الأمل

وفي قصيدة (أمان مصلوبة) يناجي الشاعر محبوبته بوله وحب، إلا أن هذه المناجاة مليئة بالوجع والحيرة والقلق، لأنه يجد أن الأماني قد صلبت، وسط فوضى الحياة وانقلابها:

عَنْ أيّ شيء تبحثين؟

عنْ قطرة

في برزخ الظمأ اللعينْ؟

عن دارة للدفءِ أثْلجَها الأنين؟

زهرٌ وأذواهُ الجوى

مِنْ خرْبةِ ما تَأملينْ؟

لمْ يوقظ الصوتَ الذي

هدّم جدران الزمنْ؟

لمْ يلغِ حلماً ضائعاً

عنْ أي شيء تبحثين؟

كما نلاحظ أن هذه القصيدة امتلأت بعلامات الاستفهام التي تحتاج إلى أجوبة، التي من الواضح أن الحبيب لا يجد لها جواباً.

وعن الشباب وثورته التشرينية، وما قدموه من تضحيات، وما حدث في سوح التظاهرات، يقدم لنا الشاعر قصيدة حماسية تؤيد هذه الثورة وتباركها تحمل عنوان (أيْقُونَة الأحرار):

بغدادً لو أمطرتْ

هذي السماءُ دَمَاً

لَنْ تُخْليَ السَّاحَ حتى نَرْكُزَ

العَلما

**

لو أنْزَلتْ حُممّا هذي الحُشُودُ لها

لَنْ نَتْركَ الأمْرَ

حَتى نَبْتِرُ الْوَرَمَا

**

فيكِ اكتوتْ أضلعٌ فيك استطابَ فمٌ

فيكِ انْبرتْ رايةٌ

قد أحيت الرِمَمَا

وتمضي هذه القصيدة وهي تضع أمامنا سوح التظاهرات وثورة الشباب وما حدث فيها، أما قصيدة (لم يكنْ الحلم بعيداً) فتقدم لنا حركة الأمجاد أبطال قواتنا المسلحة وهم يواجهون قوى الظلام:

شامخاً يمشي وتعلوه النضارةُ

خوذةُ المجدِ وهالات الحضارة

حَضنَتْ كفّاه أيدي الأزمنةُ

شَهَقَتْ عيناهُ صوب الأمكنة

ثغره الظامئ قد ذاب اشتياقاً لجبين الفاتنةُ

إذ همى الدمعُ ثقيلاً من أحداق واهنةُ

حينما داس الذباب الأزرق الموبوء طهر المئذنةُ

واستباح الرجسُ دفئاً من عصور غابرةُ

أما قصيدة (أنات في صَدر الثرى) فإنها رحلة من الطيب والتعب، رحلة امتدت لستين سنة، وهي أنّات في صدر الشاعر وبوح يحكي ألم أبناء هذا البلد، وتحكي غدر الزمان، وهول الفاجعة، والألم من وطن مليء بالأوجاع، وفي نهاية هذه القصيدة التي حملت المجموعة الشعرية اسمها يقول الشاعر:

حتى رأى

تَحْتَ الثَّرى وطناً

بيد الرعاعِ

وكلِّ مَنْ دَبَبا

**

روضُ الأحبةِ مُقْفِرٌ

يَبسٌ

حتى كأن الله قَد

غَضِبَا

ضمت هذه المجموعة وأربعة وعشرين قصيدة شعرية بين العمودية والتفعيلة، بأدوات شعرية ناضجة نابعة من تلك التجربة الشعرية التي خاضها الشاعر في عالم الشعر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة