عبد الجبار عباس فتى النقد الأدبي في العراق.

أجهر بأنني ناقد انطباعي

شكيب كاظم

” للحرف عندك منزلة، وللأدب قداسة، فأي عبء حمّلَكَه هذا الحب الذي لا يموت (..) عبثاً تغالط نفسك فتزعم أن الجذوة انطفأت والشوق مات والقلم انكسر.. وهيهات (..) فما زلت في ذروة من الشباب (..) وما زال للإبداع في ضميرك صدى يمتد (..) فليس هذا المدى الذي قطعت بضئيل..”.

هكذا يناجي الناقد العراقي الراحل عبد الجبار عباس (1941- 1992) نفسه، ولا مشاحة أن هذه المناجاة جاءت لتصور خلجاته وهو يعاني الخيبة وسوء المآل، واضعين في الحسبان حساسية المثقف المبدع، الذي كان من المؤمل أن يقدم المزيد لولا قساوة الحياة ومثبطاتها، هو الذي آثر الحياة الحرة على قيد الوظيفة والدوام الرتيب، فإذ تخرج في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة بغداد سنة 1964، لم يسع للحصول على عمل وظيفي يؤهله له تحصيلُه الدراسي، آثر الكتابة في المجلات والصحف، وما تدرّه عليه من مردود مالي، صارفاً وقته في القراءة والكتابة.

أزعم أني تعرفت إلى عبد الجبار عباس ناقداً، من خلال كتابه (السياب)، هكذا كلمة واحدة! الصادر سنة 1392هـ – 1972م، في ضمن سلسلة كانت تصدرها مديرية الثقافة العامة بوزارة الإعلام العراقية، أطلق عليها اسم (كتاب الجماهير) وكان سعر النسخة زهيداً، من أجل تيسير هواية القراءة وتنميتها والحث عليها، درهماً واحداً، خمسين فلساً، والكتاب هذا في الأصل بحث تخرج في الكلية، آثر نشره كما كتبه أول مرة، ووجدتُ في كتابه هذا (السياب) نهجاً مغايراً لما نهجه الآخرون في الكتابة عن بدر، إنه أسلوب كتابي جميل يعيد لذاكرتي كتابات الأديب اللبناني سليمان كتاني( توفي 2004)، واضعين في الحسبان، أننا في تلك السنوات كنا نحيا تحت وطأة الشعور بالإثم، إزاء المصير الفاجع للشاعر الرائد بدر شاكر السياب (1926- 1964) فقد شهدت السنوات الموالية لوفاته فيضاً من المؤلفات كتبها، محمود العبطة، وعبد الجبار داود البصري، والدكاترة عبد الرضا علي، وإحسان عباس، وعيسى بلاطة، وإيليا حاوي، وعلي البطل، و، و.

                             ناقد انطباعي

لقد ظل الناقد عبد الجبار عباس يجهر بانطباعيته النقدية، فها هو يكتب في جريدة (الراصد) الأسبوعية مقالة يؤكد فيها انطباعيته، وليزيد هذا الأمر ترسيخاً في المقابلة المعرفية الثرية، التي أجراها معه القاص العراقي المغترب عائد خصباك- الذي حصل على الدكتوراه فيما بعد- ونشرتها مجلة (الأقلام) بعددها السادس لسنة 1985، وأعاد نشرها في الكتاب الوثائقي المهم (الحِبكة المُنغّمة) الذي اعتنى بإعداده للنشر أستاذي الدكتور علي جواد الطاهر ( ت. 1996) فضلاً عن عائد خصباك، وحملت تلك المقابلة عنواناً مدوياً:( أجهر بأنني ناقد انطباعي) والكتاب هذا جهد متميز ومضن بذله المُعِدّان لانتشال ما بقي مخطوطاً، ولم ينشر، أو نشر في الصحف والمجلات ولم تضمه كتبه التي أصدرها في حياته وهي:( مرايا على الطريق) صدر سنة 1970 و(في النقد القصصي) الصادر عن دار الرشيد سنة 1980 ولننظر إلى الفاصلة الزمنية الطويلة، عشر سنوات، و(في النقد القصصي) الذي أصدرته الدار عينها في السنة الموالية، وكلّلت (الحبكة المنغمة) مقدمة ضافية راقية كتبها أستاذي الطاهر، صب فيها كل خوالجه إزاء تلميذه عبد الجبار عباس، فتى النقد الأدبي في العراق، الذي تخرّمه الموت سراعاً، ولم يدعه ينجز الذي كان يمنّي النفس بإنجازه، إذ عصفت به نوبة قلبية ودماغية، أرقدته مستشفى الوجيه الحلي عبد الوهاب مرجان، وليغادر الحياة مساء الخميس 3/كانون الأول 1992.

وإذ يؤكد عبد الجبار عباس انطباعيته في مواقع عدة، فضلاً عن مقالاته ودراساته التي احتوتها كتبه، فإن هذا لا يعني الوقوف عندها وعدم الاستفادة من مفاهيم النقد الأخرى، القديمة والحديثة، فهو يؤكد لمحاوره عائد خصباك، إنه يجد نفسه تواقاً إلى أن يغْنيّ التعامل النقدي بألوان متعددة من المعرفة، شرط أن يحسن تمثّلها تمثلاً ناضجاً لا تبدو فيه هذه المعارف مجرد أدوات أو مجرد عناصر طارئة يمكن نبذها، مؤكداً أنه حين يتعامل مع نص أدبي يتناوله بإشباع تام، وهو ما يؤكده أستاذه علي جواد الطاهر، ففي تلميذه استعداد خاص لنسمه الموهبة، عماده الذوق السليم والتأني والتأمل، فناقدنا يكتب بعيداً عن المؤثرات الخارجية، بعيداً عن مقولات الآخرين ومناهج الآخرين، فما كان عبد الجبار عباس ليتعامل مع الأعمال المنقودة بما يفرضه عليها من الخارج، مرة باسم فلان وفلان، ومرة خضوعا للمنهج الفلاني والمنهج العلاني، ومرة لـ(مودات) نبتت في غير موطنها ولأعمال استوجبتها. تنظر ص15

آذته الكتابة الصحفية

قلت، إن الناقد عبد الجبار عباس، ظل يحيا من مردودات كتاباته، فضلاً عن عمله في الصحافة، مجلة (ألف باء) أو جريدة (الراصد) الأسبوعية، أو القسم الثقافي في إذاعة جمهورية العراق، لكن العمل الصحفي الذي يتطلب السرعة، فضلاً عن الحيّز المحدد، قد أثر على كتاباته النقدية، فالصحافة إذ تقدم خدمات للأدباء من جهة النشر، فإنها تؤثر سلباً على إبداعاتهم، لضرورة مواكبة الإصدارات، ولاسيما لأصحاب الحظوة والتأثير في الصحافة الحكومية، واضعين في الحسبان تأميم الصحافة في العراق، أي إنها كانت تحيا تحت وطأة الهيمنة الحكومية، منذ شهر كانون الأول 1967، وحتى 2003، فلو أتيحت الفرص المناسبة لفتى النقد الأدبي في العراق عبد الجبار عباس، لتألق مواهبه وإبداعاته، لحصلنا على خير وفير في الكتابة النقدية، فهو من قلة قليلة، كانوا متطابقين مَخْبرا ومظهراً، وينظر إلى عملية الكتابة بنوع من الطهر والقداسة، إنها مسؤولية، حتى إنه تعرض إلى غضب بعض المتأدبين لأنه لم يكتب عنهم، وإلى حنق آخرين لأنه كتب عنهم بما لا يدغدغ نرجسيتهم المتورمة بالأنوية المتعالية، وما هم لدى التدقيق سوى فقاعات خدمتها الظروف، مؤكدا للدكتور عائد خصباك، إن تجربة العمل في مجلة (الف باء) جعلته يرى مزايا الانطباعية السريعة وعثراتها، فإذ تقرأ رواية (القربان) للروائي غائب طعمة فرمان، مثلاً، فإن هزة الإعجاب بها تقودك الى كتابة مقال سريع بعشر دقائق وتظل منتشياً بهذا الإعجاب وهذه السرعة، قد اعتز بهذا النقد الصحفي، ولكن للبحث النقدي عندي مكانة لا تبلغها المقالة الصحفية، فالبحث النقدي هو المجال الرحب لتحقيق ما أصبو إليه. تنظر ص311

مقالي أدبي نقدي

لقد كتب الناقد عبد الجبار عباس المقالة النقدية الفنية، ولا سيما حينما كان يكتب بحرية أوسع مما يتطلبه العمل الصحفي السريع في المجلات والصحف- كما أشرت إليه آنفا- من خلال الكتابة في مجلات (الآداب) اللبنانية الرائدة، فضلا عن (الأقلام) و(الكلمة) التي تولى إصدارها الباحث حميد المطبعي (ت.2018) هذه المزية أشرعت أبوابها أمام الباحث والناقد العراقي الدكتور قيس كاظم الجنابي، كي يخص الجهد المقالي لعبد الجبار عباس، بدراسة قيمة في كتابه (المقالة الأدبية في العراق. النشأة والتطور) الذي أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد طبعته الأولى سنة 2018، في ضمن سلسلة (نقد) ساعياً إلى أن يؤسس لمقالة نقدية انطباعية قادرة على ترويض النقد، لصالح كتابة المقالة عبر منهجية معينة لها خصائصها، مترسما خطى أستاذه الطاهر، بأسلوبه النثري الساحر، الذي يغوي المتلقي العادي، وأحيانا المثقف عبر اللغة، وليس عبر المنهج النقدي الذي يتبعه الطاهر. تراجع ص 199ص201

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة