كرم نعمة
عندما تمارس جيوش المغردين الصراخ الدائم، ثمة فرصة رائعة لمن يثق بالتفكير كوسيلة لصناعة لائقة بالعقل، محظوظ من لا يقع تحت إغراء الصراخ ويكتفي بالتعبير عن نفسه بالكتابة خارج مواقع التواصل الاجتماعي.
بدا هذا الكلام مناسبا لعشرات الصحافيين والقراء وهم يبحثون هذا الأسبوع عن الروائية ماغي أوفاريل على مواقع التواصل الاجتماعي بعد فوزها بجائزة المرأة للرواية التي تمنح للنساء حصرا في بريطانيا منذ عام 1991.
فازت أوفاريل بالجائزة عن روايتها التاريخية “هاميت” فاندلعت جوقة الاحتفال في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، أو على الأقل في ذلك الجزء منها الذي يسكنه العالم الأدبي. فالكاتبة سيدة على درجة من الكياسة ومسؤولة جدا عن كل ما قالته من قبل، لكن لماذا غائبة عن هذا الاحتفال الاجتماعي بها!
الجميع تساءل مغردا ومعلقا على تويتر وفيسبوك: أين ماغي أوفاريل؟ فلم تردّ!
ببساطة لأن هذه الروائية لم يكن لديها أي حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي ترفض مشاركة “جيوش من الحمقى” وفق وصف الروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، على مواقع التواصل، ولديها الثقة بعملها الروائي للتحدث عن نفسه.
لا تمتلك ماغي أوفاريل أي حساب على مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك لم تشارك بجوقة الاحتفال بفوزها، ولم يكن عدم المشاركة خسارة أبدا وفق قناعتها، لأنها ربحت التفكير بينما يستمر الآخرون في الصراخ.
تتساءل الصحافية ستيفاني ميريت: ماذا يكسب الكتّاب ويخسرونه عندما يتجنبون وسائل التواصل الاجتماعي؟ ربما تأتيها إجابة حاسمة من الروائي باولو كويلو الذي يمتلك حسابات في تويتر بعدة لغات بينها العربية ويتابعه أكثر من 15 مليون مستخدم، كما يمكن أن نستعيد مثال الكاتب الأميركي بريت إيستون إيليس مثلا، الذي أنفق في السنوات الأخيرة في سياق أحاديثه مع نصف مليون من متابعيه في تويتر، وقتا فاق بكثير الوقت الذي خصصه لكتابه القادم.
لكن نصيحة الروائي الأميركي جوناثان فرانزين للجيل المعاصر من الكتاب مفيدة أيضا، عندما طالبهم بعدم إضاعة وقتهم في المزيد من التغريدات، لأن الكتابة ليست مؤسسة طائفية جماعية كي تجمع حولها الآخرين، بقدر ما هي جهد خيالي شخصي. معترفا بأنه يستخدم التكنولوجيا في الكتابة من دون أن يسمح لها بإرغامه على إدمانها، لأنها بالنسبة إليه لا تملك الكثير لتفعله حيال تطوير حسّه الإبداعي.
بالنسبة إلى العديد من المؤلفين، سيكون للفوز بجائزة ما عرضٌ موازٍ على مواقع التواصل الاجتماعي للاشتراك في تسونامي التغريدات والتعليقات، لكن صمت ماغي أوفاريل كان لافتا للانتباه أيضا، لأنها كما يبدو قالت في صمتها أكثر بكثير من التعليقات المنتظرة التي كان يترقبها المحتفلون والناقمون، مع أنه ينظر إلى مشاركتها الفعلية كنوع من الترويج لروايتها كي تصل إلى جمهور أوسع.
غالبية دور النشر لا ترحب بعدم وجود الكتاب على مواقع التواصل، وترى أنه رفضٌ ملتوٍ ومتعمد يصعب الاستمرار فيه. ولطالما كان هناك حفل توقيع افتراضي، حيث أن المؤلفين سيوفرون جهدا إعلانيا على الناشرين ويساعدونهم في تسويق الكتاب.
لكن عدم مشاركة المؤلفين في تلك الحفلة الافتراضية نوع من الثقة بقدرة الكتاب على استقطاب القراء من دون حاجة المؤلف إلى تذكير الجمهور.
عندما يتعلق الأمر بما يسمى “بناء العلامة التجارية الشخصية” يبدو من الأفضل للكتّاب ترك نصوصهم أن تفعل ذلك، فليس من مصلحة الكتابة أن يقدم متنها نفسه بطريقة مثلما تفعل صورة عارضة جميلة في حسابها.
اعتبار ماغي أوفاريل رابحة بفوزها بجائزة المرأة للرواية ورابحة بعدم تواجدها على فيسبوك وتوتير، يعود إلى أنها تسمع تفكيرها غير مبالية بحفلة الصراخ الضخمة التي تحيط بعالمها الروائي على مواقع التواصل.
لا أعتقد أن هذه الروائية معزولة عن العالم الرقمي، وأتوقع أنها تستخدم التكنولوجيا في إنتاج نصها الأدبي، ومن يدري ربما لديها حسابات على مواقع التواصل للمراقبة أو على الأقل لمعرفة ما يجري، من يدري! لكن الأهم من ذلك أنها غير معنية بالضجيج الرقمي. ولا ترى فيه تعبيرا عمّا تتوق إليه.
ليست ماغي أوفاريل وحدها من تعتقد بضرر مواقع التواصل الاجتماعي على الكاتب، هناك عدد غير قليل من الكتاب الذين يحظون بشهرة واسعة وباحترام القراء لا توجد لهم حسابات شخصية على مواقع التواصل، وما يوجد هي حسابات تدار من قبل ناشري كتبهم أو جهات ثقافية مهتمة بأعمالهم، مثل الكاتب البريطاني جون أوفاريل الذي حققت رواياته أعلى المبيعات، زادي سميت الروائية البريطانية من أصول جامايكية التي سبق وأن فازت بجائزة المرأة للرواية، هيلاري مانتل الروائية الوحيدة التي فازت بجائزة بوكر مرتين عن روايتها الملحمية “صالة الذئب”، الكاتبة الأسكتلندية آلي سميث، والأميركية من أصول أيرلندية تانا فرينج التي حظيت روايتها باهتمام بالغ من القراء والصحافة وحصلت على أكثر من جائزة، ثم الروائية والناقدة البريطانية أوليفيا لينغ التي تحظى كتاباتها في صحيفة الغارديان باهتمام بالغ.
هؤلاء كتاب يتميزون بإنتاج نصوص غامرة، ومدروسة بعمق، نتجت عن تفكير وقراءة واسعة، وتمثل نقيضا لوسائل التواصل الاجتماعي. والأهم أنهم جميعا من جيل منتصف العمر وما فوق، وهذا يعني أنهم عاشوا الثورة الرقمية في أوج حيويتهم، ومع ذلك فضلوا تأسيس حياتهم الإبداعية بالطريقة التقليدية التي تفضل النشر والمراجعات النقدية ومعارض الكتب. بينما يعتمد كتاب أجيال الألفية الجديدة على مواقع التواصل للحصول على موضع حضور في عالم الإبداع.
في النهاية لا يمكن أن يصل المؤلفون إلى درجة الهلع من مواقع التواصل بوصفها عاملا ضارا بشكل دائم بالإبداع، كذلك تقول ستيفاني ميريت، فهي مثلا طلبت كتبا كثيرة بناء على تغريدة من شخص تثق بذائقته الأدبية، وهناك من استطاع أن يعتمد على سخاء المستخدمين العاديين في الترويج لكتبه قبل أن تضيع من دون معارض وحفلات توقيع.
مع ذلك أصبح الكتّاب الذين يتخلون عن وسائل التواصل الاجتماعي أمرا مألوفا إلى درجة أنه أنتج نوعا خاصا من المحاكاة الساخرة، مثلما كتبت زادي سميث ذات مرة، إنها تتجنب وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تريد الاحتفاظ بـ”الحق في أن تكون مخطئة”.
الأهم في كل تلك القصة أن الروائي ويليام ساتكليف زوج الروائية ماغي أوفاريل، كرّم زوجته في اليوم التالي من فوزها بتغريدة عن الإلهام الذي ساعدها على الفوز عندما أعطت نفس القدر من الطاقة لحياتها كما تفعل في الساعات التي تقضيها في الكتابة، ومثل هذا الإلهام لا تمنحه وسائل التواصل بالتأكيد.
*عن ميدل أيست أون لاين