د. سمير الخليل
يصر الموقف النقدي على أن كل قراءة للنص الشعري تحوي مادة موضوع ضمنية يحيل إليها النص وتوجه استيعاب القارئ إلى فهم يمكن ان يقال عنه إنه صحيح، وممكن أن يثار الاعتراض على أن الاهتمام بمادة الموضوع يكون ملائماً لنصوص معينة، مثل الوثائق التأريخية، أكثر من النصوص الشعرية نظراً للاعتقاد بأن النصوص الشعرية تخييلية غالباً، أي لا تحيل إلا إلى ذاتها. ونرى، مع ذلك، أن المسافة بين نصوص الواقع والنصوص الأدبية ليست كبيرة قدر ما هو متصوّر عادة، على الرغم من أن مقاربة جنس “الشعر” تنحو منحى معاكساً من الكتابة الواقعية، فهي تهتم برصد الحركة المهمة التي تحدث في كل من الأدب والواقع وإن كان ذلك بطرق مختلفة.
في مجموعته الشعرية (أحياناً … وربّما) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد 2019، يبرهن الشاعر “مهدي القريشي” بخصوص الصلة الوثيقة بين هذين النوعين من النصوص، على خطر يتمثل بعدم إنصاف كل منهما، فهناك اختلافات أساسية واضحة بين معالجة المؤرخ لوثيقة معينة، ومقاربة الشاعر لحادثة معينة، فالمؤرخ يستخدم النص لاكتشاف شيء ما، باستثناء النص، أي حدث أو اعتقاد أو حالة ذهنية أو بدنية … الخ، أما الشاعر فيعترف باستبطانه للحادثة وتقمصه للذات التي اكتوت بنارها، ولا يهتم المؤرخ بإشارة النص إلى القصد، بل ينشد معرفة الحقيقة التي لا تمثل، بالضرورة، ما يوحي النص بأنه حقيقي، وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، يمكن له تعليق الزعم بحقيقة النص تماماً، وقراءته ببساطة لمعرفة ما يموضعه، ومع ذلك يبدو أن هذا التعليق صار أنموذجاً للدارسين المحدثين من الأكاديميين ونقاد الأدب، إذ بدلاً من أن يمثل الحد الأدنى من القراءة، أصبح يؤخذ بوصفه هدفاً للقراءة كلها، وبضمنها قراءة النصوص الأدبية ومنها الشعر، وهنا يثار هذا السؤال عما إذا كان هذا التعليق صفة لمشروع الشاعر أم لا؟.
يجيب الشاعر “مهدي القريشي” في معظم قصائد المجموعة بـ”لا” مقدماً إسهاماً مهماً للجدل المنهجي الراهن بين نقاد ودارسي الشعر حول فاعلية الشاعر.
إن رغبة الشاعر بفسح المجال أمام تأويل النص بلغة الواقع المتجسد الذي يتماهى معه تكون ممكنة بفعل الإدراك الشعري الذي يصاحب نظرة الشاعر للأفق التأريخي- الواقعي، أي أن بإمكان الشاعر توسيع أو تضييق السياق الذي يطبقه عند كتابة النص لأنه يدرك أن النص ذاته مشروط ثقافياً (واقعياً وتأريخياً) وقد لا ينطوي على حقيقة الموقف، ويكون الحد الأدنى من القراءة – أي الرغبة بمعرفة ما يوجد هناك فقط- هو النتيجة التي يتمخض عنها هذا التضييق، ولا يمكن البقاء داخل هذا الوضع طويلاً لئلا تضيع دلالة ما يقال تحديداً أو يساء فهمه ويكون الشاعر معنياً أيضاً بمعرفة حقيقة الأمر، على الرغم من أنه لا يرى نفسه بوصفه المخاطب المباشر في النص بالصورة التي يشعر بها قارئ النص الأدبي حينما يدعوه النص مباشرة، في نص “جثة في منفى” نقرأ الآتي:
((نحن عائلة حربية/ رغم أننا: لم نخزن في بيتنا ظرف إطلاقة/ ولم نستودع من فضلات السيد نوبل/ فنجان قهوة مجعدة/ أو نستعر من عدته قدر ملعقة شاي/ لنغمسها في لفافة طفلة/ وحتى لم نعلم أطفالنا التراشق بمسدسات الماء/…/ ما حيلتي والمؤمنين/ تتفتح شهية مدافع إفكارهم/ على ثرثرة لا تسكتها ثرثرة أخرى/ فأنا ولدت قبل أن يودع أبي في السجن/…/ لكن حين ألمح المطر/ يبلل المقابر/ أتلمس رقبتي)) (ص33 وما بعدها).
وهكذا فإن الشاعر ينضم إلى قارئ الأدب الذي يكون معنياً بحقيقة مادة موضوع النص (بشكلها ومحتواها). ويوسع الشاعر سياقه ليحدد الكيفية التي ينبغي بها فهم الموقف الواقعي- التأريخي ككل، وليس وثيقة “الحرب” المعيّنة، حالما يكتشف أن الوثيقة تسيء تمثيل الموقف الحقيقي. أي حالما يؤول النص بطريقة تختلف عن قصد النص ، كما ينبغي أن يقرر الشاعر كيفية تأويل مختلف النصوص المنشبكة في نصه، وكيفية تأويل الموقف المعاد بناؤه في ضوء التطورات السابقة واللاحقة بالصورة التي يفهم بها من سلسلة الإيماءات المتلاحقة، وهذا ما حاول الشاعر “القريشي” أن يبثه في قصيدة “سيرة عصفور” ونقرأ منها: ((حديقة بيتنا الخلفية أكبر من دار مدير للبلدية/ فيها شجرة كالبتوس تتذكر جدي/ حين كان يحضن بنت الجيران لصق جذعها الأملس/ ثمة عصفور عيناه تتقدان صبراً/ ينتظر تصاعد رذاذ الشهوة/ لتستريح الأغصان من نزف فاكهتها/ ويخبر جدتي بخيانة الشجرة)) (ص35).
عبر هذا النص نفهم أن مهمة الشاعر تنصب بتحديد معنى ظاهرة ما بمسكها في كامل وعيها الذاتي- التأريخي، ولهذا يحاول الشاعر تسليط الضوء على حقبة معينة من حياته أو عهد معين من حياة الناس، فضلاً عن أن الشاعر يكون مأسوراً بسبب هذا “التحديد” بالطريقة نفسها التي تحدث في كل قراءة أصيلة للوجود بكليته: في الحقيقة، لا يوجد، على الاطلاق قارئ يقع نظره على كل زوايا الوجود المفتوح أمامه، ويلم بكل التفاصيل، كما لا يوجد، اطلاقاً، قارئ يقرأ ما يوجد في النص الذي أمامه ببساطة، بل تحدث خروقات في القراءة كلها، إلى حدّ أن كل من يقرأ النص يكون مأخوذاً بالمعنى المضمر، فالقارئ يصغي بمعية النص الذي يفهمه.
ويعرض الشاعر المأخوذ برؤاه، موقفه لخطر نسيان نفسه وتأريخيته عند التعامل مع كوابيس الماضي التي تعود من جديد كعودة المكبوت، ومع تراث يستبطنه شخصياً، وبهذا المعنى تكون مهمة الشاعر شبيهة بمهمة الناقد الثقافي في أكثر منها بمهمة المؤرخ أو الأركيولوجي (الآثاري)، لأن الشاعر ينطلق من النص الذي يؤلفه بطريقة معينة كما أن فهمه مشروط بذلك “النص” تحديداً. وأن كلاً من الشاعر والناقد الثقافي يرتبطان بطريقة يؤدي فيها الشاعر لا وعيه (الثقافي- النسقي) إلى جعل علاقة النص والسياق ممكنة، ولنتأمل كيف يتم غسل دماغ الإرهابي في قصيدة “فنطازيا”: ((دوزنوا أحلامهم على مقاسات جمجمته/ وفي طريقة إلى “الجنة” سيتعثر بالحور العين/ وبولدان تقطر أصابعهم شتائم نقية/ وعيونهم تنزف أغاني حمراً/ فملاذك آمن/ وفضاؤك ممتلئ/ هذا مبتغاك/ أكمل الله عقلك/…/ والحوريات يتسابقن بعرض بضاعتهن المكتنزة بالإيمان/ وقد يتخلى الأنبياء عن أسرهم/ فليس من العدل/ أن يترك واقفاً على عشب جاف/ من سقى شجرة الله بهذا الدم! وما بعدها)) (ص47).
وبذا صار يفترض بنا أن نتبنى قراراً حول الاختلاف في الدرجة بين النصوص الاعتيادية والنصوص الشعرية، وانطلاقاً من وجهة النظر الجمالية يُعد الاختلاف شكلاً للكتابة ، أي جمالاً للتعبير من الناحية التقليدية، أو بنية للكتابة، من الناحية الأكثر حداثوية، وطبقاً للعرض الذي وضعناه، فإن ما يقال يوازي في أهميته الكيفية التي يقال بها. ويكمن الاختلاف الأساسي بين هذين النوعين من النصوص في توقعات حقيقة الشعر، ولا يتمخض عن لغة الشعر المجازية الوضوح والتمييز نفسه الذي تقدمه لغة التأريخ الواقعية غير أن هذا لا يعني أن اللُّغة الشعرية لا تنتج أي توقع للحقيقة، فالشاعر يرى أن متعة النتاج الشعري إدراكية، وإن كانت عامة أشبه بالاعتراف الذاتي (بوح، نجوى) أو الاعتراف بتصوير ظلال الموقف الإنساني، ويكون الشعر الحديث، في بعض الأحيان، إشكالية أكثر لأنه مبهم أساساً، وحتى الإبهام يوحي بالاعتراف بالمعنى، إلا أنه مع ذلك ليس هراء بل يشير تحديداً إلى الاعتراف بالكثير من الاتجاهات الممكنة التي قد يسلكها المعنى، فإضفاء الشعرية يعد طريقة لإضفاء المعنى أيضاً، أي طريقة للتدليل، وتشتمل اللُّغة على حركة أساسية لقول شيء ما عن مادة الموضوع، لكن ينبغي لها ألا تكون مادة خارجية أو عرضية، وفي حالة الشعر يمكن أن تكون اللُّغة الشعرية ذاتها.
أما عن العنوان الرئيس للمجموعة الشعرية (أحياناً… وربما) فكان منصباً على توصيف حيرة الشاعر: فأحياناً يكون شاعراً، وربما في أحيان أخرى يكون شاهداً على مرحلة بأسرها.