علي سرمد
الغُروبُ هنا لا يستمدُّ ملامحَه من الشَّفقِ
غروبٌ أكثرُ دمويةً منَ الدَّم
يَفْصَحُ عن كينونتِه بلا خديعةْ
يتطاولُ على نُعَاسِ الطُّرقاتِ فيَسْتَبيحُها
برشاقةِ البلُّور إلى ماءٍ أشبه بالحريق،
يبني عرشَه على الجِّثثِ التي ما زالتْ تبتكر الحياة.
غروبٌ ليس له غيرُ السوادِ المنتشرِ على مسافةٍ بين السماءِ والأرض
في زمنٍ أصبحتْ فيه الشمسُ كرةً يجرُّها القادمون بِأَعْمدةِ الرُّخام، فيما هي ليستْ سِوى كُتلةٍ من الفحمِ اليابسِ تحت أعمدةِ الكهرباء.
كُلَّما شحَّ السوادُ أو تلاشى
غيَّرتْ النجومُ مواقِعَهَا واستعانتْ بالسَّراب
لِتُوْهِمَ الناظرينَ بضياء عَينَيها البارزتينِ
كسكينٍ يذبح الظلَّ ويرمي صداه تحت القبور.
غروبٌ له أعينُ المساءِ حبرٌ ملصوقٌ على جَبينه
والهواءُ فقاعاتٌ من الموت،
يرسمُ الكونَ برصاصةٍ ثلاثيةِ الأَبْعاد
وكلُّ ما دونها مجرَّدُ وهمٍ يُدحْرِجُ أنفاسَه على جليد النار.
غروبٌ نحتته السلالمُ من أقاصي البحار
لِتسْتَعذبَ ماءَها مِن فمِ أرواحِنا
التي أصبحتْ دميةً لكلِّ ريحٍ
نستْ غبارَها عند مُنْعَطَفِ الطَّريق
ذات يومٍ جِئتَه متأخراً
رأيتُ وقْعَ أقْدامِه الشَّاردات
تتوسَّد الأبوَابَ علناً
وكانت الشمس قد عَلِقَتْ في حناجِرِنا
فآثرْنا الصَّمتَ
لئلَّا نبوحَ بماءِ الكلام الذي استوى مثل جثةٍ متفحِّمَةٍ على مائدة الطريق.
هِمْنا على رؤوسِنا نتوسَّلُ إليها أنْ تزولَ
غير أنَّ الساعة التي تسبق الليل قد هرَبتْ
من سلالةِ الوقت
فكُنَّا كَمَنْ يَبْحثُ عن المنسياتِ الحميمةِ في الفهارس والكهوف.
أجَّلنا مراثينا
وأرخينا حبالَ الصَّمتِ للدُّروبِ العابرةِ عَبرَ أفواهِنا،
والقادمونَ يسقطون جيلاً فجيلا في الفراغ الذي يثقب الضوء
فهل لنا أنْ نودعَ أنفاسَنا التي خيَّطها الزمن؟
أم سندفنُ عَويلَنا تحت الرُّكام.
عَزَمْنا الرَّحِيلَ واصطفينا النُّعاسَ
غير أنَّ وقعَ خُطَانا كانتْ تسبقنا
فاصطدنا بشعاعِ الدَّم وأكْياسِ الْمَوْتى.
الشفقُ الذي ترونَه ليس سِوى سيلانٍ مِنَ الحِبْرِ
تفاقمَ لونُه بمرور الزَّمن.