تأرجح

سلام حربه

في صالة الفندق وامام موظف الاستقبال دونت في ورقة بضعة معلومات سلمتها الى الموظف الذي لاحق كلماتي باهتمام شره.. انا لا اهوى الفنادق فرائحتها تصيبني بالقرف ولكني التجأ اليها اضطرارا لإدامة اعمالي ومشاغلي في المدن لبعيدة.. في الفندق تزدهر وحدتي واكنس مللي بنوم رخيص.. رفع موظف الاستقبال عن الورقة وبعينين براقتين تأملني مليا.. لن تشطب من ذاكرتي ابتسامته الحائرة وهي تشرق وتختفي في استغراقه المتكرر بين الورقة والدهشة التي تعج بها ملامحي.. ازاح قنوطه بكلام متعثر قائلا..
ـ عفوا لدينا نزيل في الفندق بالاسم نفسه وبالمعلومات ذاتها.. حتى رقم الهوية الشخصية متطابق.. يسكن الغرفة المرقمة ( 44 ) وفيها سرير شاغر.. قد يكون احد اخوانك..او..لا اعلم..لا باس..هاك مفتاح الغرفة قد تؤنس وحدتك بصحبة غامضة..
في الغرفة كنت امامه وجها لوجه..وجدته مستلقيا على سريره..التفت الي..بدا نسخة مني..لم تربك فطنتي سوى سعادة مدخرة في قسماته..ما يميزه عني ،شعر فاحم ،ملامح نضرة وعينان تخزنان بهجة اسرة..جلست على السرير الشاغر..لم يدر بخلدي يوما ان يكون هناك نسخة مني اجلس قبالته واشوش المسافة بيني وبينه بالحيرة والشكوك.. لم يوخز وجودي رزانته بل واصل التحديق في نقطة مجهولة في الجدار المقابل.. شعرت بان حواسي اليقظة تستدرج قلقي بالسؤال..
ـ الاسم الكريم..؟
دون ان يلتفت وكمن يمضغ كلماته اجاب بضجر..
ـ سلام..
ما كنت ادري يوما ان لاسمي صدى يقضم هدوئي القلق كما في نبرة شبيهي.. تولدت لدي رغبة في النفاذ الى اعماقه وان اعلق على مسمار الفضيحة كل اسراره ، نزواته ، حياته العاطفية بعد ان اجدبت ذاتي في السنين الاخيرة واحتقنت مشاعري بالإحباط.. اجلت نظري في الغرفة.. سريران وشمعة ملابس ومصباح تآكلت اشعته في نسيج عنكبوت.. الغرفة تتلون بالترقب وبكسرة ضوء كاب وانا اتعقب زمنا ثقيلا ينبض في داخلي.. تمعنت فيه.. كان يزج نظراته في الفراغ امامه.. لم اتبين الطريقة المثلى لمداهمته وثلم شروده.. لم اقنط والححت على سؤاله ..
ـ كم الساعة الان..؟
بجزع ظاهر نظر في ساعته..
ـ الخامسة..
ـ الخامسة ..؟في صالة الفندق كانت الساعة تشير الى السابعة الا ربعا.. اعتقد انها قاربت الساعة السابعة..
وبإصرار مد يده التي تحمل الساعة لي.. هيئته الجادة اتسمت بسخرية شاحبة.. نهضت من سريري.. امسكت بيد شبيهي وحدقت الى الساعة.. كان عقرب الزمن المتحرك يدور بحركة عكسية فيمشط الارقام من اليسار الى اليمين.. صعقت.. كل الزمن يمضي من اليمين الى اليسار ما عدا زمن شبيهي فهو زمن عكسي.. عجبت كيف لا تصاب عقارب ساعته بالدوار وكيف الفت حركة القهقرى والنكوص.. العقرب الكبير ينتصب عند ابواب الخامسة.. ومن نافذة بهية في وسط الساعة لمحت ان الخميس مقيد وقابع وراء قضبان مزججة.. التفت اليه وبنبرة جادة سألت..
ـ في أي يوم نحن..؟
وبلا مبالاة ثانية وبتلك النظرة الواثقة اردف قائلا..
ـ الا ترى الساعة..؟ نحن في يوم الخميس..
ـ الخميس ..؟اليوم الثلاثاء.. انا واثق من ذلك كاقتناعي المطلق بان اسمي سلام ..ان ساعتك هذه مجنونة.. دورانها عكسي وتربك الزمن لديك..
لم يأبه بكلامي.. عدت الى سريري.. قررت ان استجمع ذكائي في جولة خسران ثانية ليقيني بان شبيهي قد قذف علينا سهوا من زمن اخر.. ألحت عليّ رغبة محمومة في تصفية احكامي الخاصة من ترهاته وان امضي معه الى اخر جنونه..
ـ في أي عام نحن..؟
ـ في عام خمسة وخمسين..
اطلقت ضحكة اهتزت لها الجدران.. لم ترتعش ملامحه ولم ينتبه الى ابتسامة الهزء التي خالطت مرارته.. وجهه بانت فيه سعادة كاذبة غير ان هواجسي طعنت بقلق متصل..قد يضطرد الحديث ويتشعب ولكني خمنت ما تؤول اليه النتيجة وقد احشر في متاهة..لذا كان لزاما ان ادجج حيرتي بمشاغلته وزرع ارضه بمصائد وهمية لاعتقادي الراسخ ان مجادلة مجنون جنون ايضا..
ـ في عام خمسة وخمسين ونحن في مشارف قرن جديد..؟
ـ نعم في خمسة وخمسين..
ـ اصدقني القول من انت..؟
استقامت جلسته..في عينيه بريق خاص..اللوعة تترهل في قسماته وجل حذقه ان يستدرج لهفتي الى شرك حجته..
ـ انا انت..ولكنني حقيقي وانت زائف.. اسمنا واحد.. وعمر كل منا اربع واربعون سنة.. انا ولدت في نهاية قرن تقهقر الزمن لدي واعيش الان في عام خمسة وخمسين وانت ولدت في عام خمسة وخمسين وتعيش نهاية القرن.. بحساب بسيط ستجد باني على صواب وبانك تجدف في الوهم..
صمت..فطن الى بزوغ حيرتي..فكر ان يقايض يقيني الاعمى بهوس منير..نهض من مكانه وجلس بالقرب مني..
ـ حسنا لنجعل الاخرين حكما على ما نقول..
في الشوارع نصف المضاءة كان الناس مسرعين.. رؤوسهم منكسة.. يحسبون خطواتهم بعد ان اضاعوا حساب الاشياء..الحزن الابيض يدخر في الرؤوس والغضون المجهدة..اوقفنا احدهم في وسط الشارع..باغته بسؤال مفاجئ..
ـ في أي عام نحن..؟
وقف مفكرا.. نظر الى كلينا لم يلمح الشبه التام بيننا.. شفتاه تفضحان خرس افكاره.. زعق..
ـ ( ها )..
ولى هاربا.. الى عتمة الشارع..
في نزهتي معه.. دلفنا الى اماكن معتمة واخرى بهيجة.. الانفعالات تحتشد على صفحة وجهه فتارة يقف امام محل كبير مغلق بواجهة معتمة ليهمس لي..
ـ انظر ما اجمل هذه الكازينو.. هناك على تلك الطاولة قبل الاخيرة اجلس مع حبيبتي دوما نطالع الجرائد والكتب ونحتسي احلاما ساخنة.. هل ندخل..؟ ربما نصادف حبيبتي او بعضا من اصدقائنا الطيبين..
تلجمني الدهشة.. لم يطفح من حيرتي سوى عينين جاحظتين ولسان مموه بالصدأ.. لم يعلق على غفلتي.. وعلى طول الطريق راح يزرع الخرائب المهجورة بالحياة.. فهنا يقرأ ويطالع الصحف صباحا.. عند الظهيرة من هذا السوق يتسوق وفي هذا الركن الهادئ يطفئ ليله..
توقفنا امام احد المطاعم المكتظة.. كانت المصابيح تعوي في واجهته والارصفة تحتشد بالسيارات.. في المطعم موائد تغص بالجوع وطوابير تمرغ شهواتها في لعاب الانتظار….تفحصت شبيهي بدقة.. اطربه الهرج والمرج.. وبود عارم قال..
ـ انظر.. هذا المنظر يومي امام مكتبة الرشيد.. المكتبة مزدحمة طوال الليل والنهار.. الاخرون يقفون طوابير بانتظار دورهم بالمطالعة..
اجبت وبحزم..
ـ ولكنها ليست مكتبة الرشيد.. هذا مطعم الرشيد..الناس هنا لكي تاكل لا لكي تقرأ..
اطلق ضحكة مدوية.. كان يمسح كلامه بسخرية لاذعة.. وامام شرودي اوقف احد المارة..اقتاده من يده.. صوب نظراته نحو قطعة متوهجة..
ـ اقرا لي ما كتب فيها..؟
اجاب الشخص واثقا..
ـ مطعم الرشيد..
لم احتمله اكثر من هذا.. فقد بدا مشاكسا في كل شيء..قررت ان اطبب هذا الكابوس بجرعة صلف..وامام عينيه شهرت سبابتي وبصوت عال..
ـ اتركني ..لقد زلزلت كياني..
افترقنا..كل مضى في طريقه..في كل الايام المنصرمة لم يمح وجودي الرخو اثار ظلاله العالقة في كياني..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة