الكاتب و شريدة الحرب

زينب الكناني

بتوتر فتحتُ بريدي الالكتروني لعلـّـها كتبت لي بعد آخر لقاء مقيت بيننا! فوجدتُ رسالتها:
أيّها الجامح إلى رغيد الحياة، من خوَّلك أن تـُـرخي قبضة الحبل التي عقدتها حول عُنقي! فائضة عن تعداد هذه الأرض , كزائدة دوديه كان يجب أن أُبتر من جسد الكون .. تورّمت أصابعي وأنا أكتب وأشطب لك.. لِمَ أنقذت حياتي؟! هل لتكتبني في فضيحة أدبية تـُـهديك شهرة لا تـُثمّن بحياة بائسة مثلي.. ولا تقل أحببتني أبدا، كنت أرنو لعلاقة عبثيه معك بلا وفاء، خيانات ولا عَقد زوجي يُقرنُك بضائعه، في لقاءاتنا التي كنت تحرص فيها على ضبط المكان و الزمان المُلهٍم لنصوصك و هرطقاتك, فهمت جدا مرامك الباطني
فكنتَ تشاهدني ببرود وأنا أغلق باستمرار أنفي تهيُّئاً لموتٍ تـُـداهمني كينونته، أجرب خنق الطيور التي أحب .. أمزق أجمل فساتيني بدون أن أرتعش هل كنتَ تكتشفني أم لم تـُصدق جديتي؟
أكتُبني إن شئت و شهِّر بسُمعتي أمام قـُـرائك، ولا تـُـضحكني بأسطورة الشرف عندما يُهتك سترُ وطـــن! لهذا يهمني جداً أن أوصِم جبين رجولتكم المزعومة بالعار! تجنَّى وارسمني بخُبث، فأنا قديسة هذا المبغى الكبير، ولأكُن روايتك التي يُشارُ إليها بين أقطاب أرضنا المشتعلة! أكتُب كيف لحروق الأمس أن تُجعِّد أديم اليوم والغد، لا أريدك ساكناً أمامي فالوجوم يُذكرني بالجثث التي زاحمت طرقاتنا ذات يوم، والدماء ما أبقت للورد لوناً ننتشي بمنظره.
أتذكرُ جيداً عينيك المنتفختين من الذهول عندما سكبتُ الماء المغلي على قدمي ولم أصرُخ .. قلتُ لك إني أحاول تطهير جلدي من جُذام لازمني طويلا .. أخبرتك بأني لستُ سوى ابنة عاقَّة للدكتور يحيى عالم السيطرة في الجامعة التكنلوجية الذي تعكَّز على عصا المرض وهو يُحاضر ليورِث طلبته تركة عِلْمِه.. زاعقاً فيهم كلما شرد ذهنهم خارج درسه (يتمنون موتي كي لا أشرح لكم هذه المعادلات التي تـُـشكل مفتاح السيطرة على منظومة الصواريخ) .. كان يتقاضى دولارين لا تكفيه أجرة تاكسي إلى الجامعة. كان واحدا من مئات العلماء الذين قـُـتلوا بكاتم صوت .. أو ثقبوا رأسهم بآلة حفر الجدران.. رموه مقطعا في أكياس قـُـمامة على الرصيف المحاذي لبيتنا .. أنا المتواطئة مع القتلة بجُبني لم أثأر لوالدي حد اللحظة..
هل رأيت في حياتك طالبة علم .. تسير في شارع الكفاح مع مُزوري العملة والحشاشين.. تتعرَّف على مُدمني الصمغ والبودرة، تدخل حوانيت الأسلحة غير المُرخصة، ترتدي أسمال الشحاذين! لا أعلم لِمَ فعلتُ كل هذا بنفسي؟ هل لأنسى أبي أم لأتخلص من عائلتي العريقة والجبانة، جيرانُ سوء كـُـنا أيضا، ذات رُعْب غلـّـقنا الأبواب على جُبننا ووقرنا ضمائرنا كي لا نتورط بغوث عائلة جاورتنا ٢٠ عاماً، هُجّروا بين ليلة وضُحَاهَا بعد أن وُسِمَت بابهم بكف أحمر، دسّـوا لهم رسالة مفادُها أنّ طائفتكم كافرة وستلقى حتفها في جَهَنَّم ! ..
أنا أكرهُ وجودي تحت عباءة مجتمع مُتهرِّئ، لتعلَم أني عقَرتُ أنوثتي واستأصلتُ رحمي كي لا أنجب أولاداً أثكلَهم يومًا في وطنٍ تطحنه الأحقاد..
سأعبثُ مع الزبال وبائع مكانس الخوص، أكري الخرائب لساعات أعذب بها نفسي قبل الموت. لا تحاول أيها الكاتب إنقاذي من جُب انتحار يجذبني قعرُه ولا تـُـحدثني عن جسد ممشوق أو جاذبية مكلومة فلستُ مؤهله لأعيش .. قد طلَّقتني الحياة بلا رجعة .. فاكتـُـب عني أيّها الكاتب أسطورة تـُـبقيك نجماً كونياً وتذرُني هشيماً في سديم النهاية!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة