في مقدمته لكتابه “ضد موت المؤلف.. تكوينات نقدية ” الصادر عن منشورات الربيع بالقاهرة، يقول د. صلاح فضل: إن شعار موت المؤلف الرمزي في النقد البنيوي كان إيذانًا بانتقال بؤرة الاهتمام من السياقات الاجتماعية والشخصية إلى النص الإبداعي، ذاكرًا عدم التزام أي ناقد حصيف به، بل لم يكن – يقول فضل – بوسع الباحث في شبكة العلاقات النصية المنتجة للدلالة الأدبية أن يقطع الشرايين التي تربطها بالبنية التواصلية الكلية إلا على سبيل الإجراء الوقائي الموقوت، حتى تتم له المرحلة الداخلية في التحليل.
فضل يتحدث هنا عن تجربته الأسلوبية وحفظه ونسيانه للقرآن الكريم، وتذوقه لإيقاعات الزيات وعذوبة زكي مبارك وخفة روحه، وحيادية دريني خشبة، وشقاوة المازني، ورصانة النشاشيبي ونقله التمييز بين الأساليب المختلفة، وعشقه لطه حسين.
الكاتب الذي كتب الشعر صغيرًا وتركه بعد أن تأكد أنه لن يكون أشعر من شوقي الذي كان يتخذه مثله الأعلى، يقول: إن علي محمود طه في الملاح التائه لم يستطع أن يقنعه بنموذج بديل للشعر، واصفًا الشابي بأنه كان قيثارة سماوية لا طاقة له بمنافستها.
هنا يكتب فضل قائلًا: إن تمزق الخطاب الثقافي العربي وتناقضه الداخلي نتيجة للأهواء السياسية العارضة هو استمرار انعكاس مشاعر الخزي القديمة المترسبة في أعماقنا منذ النكسة، وأننا لم نستطع أن نفرح بنصر أكتوبر الذي نسفته مبادرات السلام قبل أن يستقر في الوجدان.
هنا يرى الكاتب كذلك أن الثقافة هي التي عليها أن تقود قاطرة الرأي العام لا الإعلام الحكومي الموجه، وأن حركتها الرزينة لا تسمح بالتقلبات المفاجئة. كما يدرك فضل هنا أن نصف قرن من التحدي الحضاري للمأساة الفلسطينية العربية قد كشف جروحنا ونقاط ضعفنا، وحرمنا من النمو الاقتصادي والاجتماعي والتطور البطيء، كان المحرقة التي كادت تدمر إمكانات شعوبنا في سعيها للنهضة والتقدم.
طرائف الحكيم
في ضد موت المؤلف يكتب صلاح فضل عن توفيق الحكيم ومنجزاته في الفن والفكر، ساردًا بعض طرائف الحكيم والسبب الذي جعله يشتهر بالبخل، ذاكرًا أن الموسيقى والفرجة والطرب هي مدخل الحكيم إلى عالم الفن الساحر، وأنه هو من ابتدع أسطورة البرج العاجي. كما يكتب عن نجيب محفوظ واصفًا إياه بالهرم المصري، متحدثًا عن خصائصه ذاكرًا منها الدأب والمثابرة والإيمان بأهمية المشروع الروائي للثقافة العربية ولوعي القارئ، ونضج حاسته النقدية في اختيار الشكل الفني الذي يكتب به.
في موت المؤلف يُحيي فضل عددًا من الكتاب والمبدعين بكتابته عنهم هنا ومنهم فتحي غانم، علي الراعي، شكري عياد، محمود شاكر، عز الدين اسماعيل، محمود أمين العالم، البهجوري، المازني، كما يكتب عن بدرومارتينيث وأوكتافيوباث، وعن شعرية المسرح عند لوركا.
هنا يذكر الكاتب أن الراعي كان أبرز ناقد احتضن مفهوم الفن الشامل الذي بذره توفيق الحكيم في ثقافتنا المسرحية المعاصرة، بحيث يتوازن الجانب الأدبي للنصوص المقدمة مع فنون الممارسة العملية والمهارات الحركية والتعبيرية ذات العروق الشعبية الأصيلة.
أما حين يكتب عن عبدالقادر القط فيقول: إنه يتمتع بحضور ضوئي شفيف، غير حاجب ولا كثيف، يسري وديعًا دون تنمر في مسارب الحياة الثقافية المصرية والعربية، فتتكشف في وجوده المرئيات وتنتظم القيم وتتحدد القامات وتسترد الأشكال ألوانها الطبيعية الجميلة.
فضل يكتب هنا مقالًا عن محمود شاكر يقول فيه عنه إنه يتميز بعدة صفات منها امتلاكه الحقيقي لعبقرية اللغة وروح الثقافة ومعرفته المذهلة لأساليب الكتاب والمؤلفين، إلى جانب جسارته الفائقة في تناول قضايا السياسة والمجتمع والثقافة بمنظور متميز، دون أن يغفل أبرز إنجازاته في فقه الأدب العربي وهو بحثه الفريد عن شخصية المتنبي. كما يعلن فضل أنه مدين هنا، لشاكر ولصديق له أصبح من قادة الأصولية الفكرية، بتعلّمه من الاختلاف معهما أن يصبح أقل يقينًا وأخف حدة وأشد ثقة بحركة المعرفة الإنسانية في نموها المبدع والخلاق..
الرومانث الغجري
الكاتب حين يتحدث عن بدرو مارتينيث الذي أدار المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة لعدة أعوام، يقول إنه كان أشد إيمانًا بالعروبة وإخلاصًا لقضيتها الفلسطينية المحورية وأكثر عملًا دؤوبًا في تعزيزها أيديولوجيًّا وإبداعيًّا من كثير من المثقفين والدبلوماسيين العرب في فترات متفاوتة.
أما في سياق كتابته عن لوركا فيقول فضل لعل الخاصية الأولى في شعرية لوركا أنها جامعة، حاورت الفنون كلها، وتغذت من أعراقها، وتنفست قليلًا فيها، قبل أن تتكثف في الكلمة الشاعرة الدرامية قصيدًا ومسرحًا، ذاكرًا أن أبرز إنجازات لوركا الجمالية أنه استثمر شكلًا شعريًّا عريقًا في الثقافة الإسبانية هو شكل الرومانث، وله ديوان متميز في هذا الإطار سمّاه الرومانث الغجري، ويقدم فيه قصة شعرية تتضمن مواقف وشخصيات متضادة وحوارات ذكية حول أحداث دالة.
كذلك يكتب عن أوكتافيوباث الشاعر المكسيكي الحاصل على نوبل والذي رحل في الرابعة والثمانين من عمره بسبب الشيخوخة والسرطان، واصفًا إياه بأنه كان أحد صُناع الثقافة العالمية في عصره، وتجاوز تأثيره نطاق إسبانيا واشتبك بشكل حار مع الثقافة الأوروبية والمشرقية، وأسهم في إثراء الفكر الشعري والنقدي، وانطلق منه إلى الفكر السياسي وسلّط طاقته الإبداعية على اللغة والحياة.
وما يراه الكاتب طريفًا أن أوكتافيوباث كان يقول دائمًا إن الشعر والسياسة توأمان، غير أن آراءه السياسية قد أثارت من الإشكاليات أضعاف ما فعلته أشعاره، وكانت له نظرياته الطريفة في الجنس والحب والموت وكان يدافع عنها في كتاباته وحواراته بشغف وافتتان.
في “ضد موت المؤلف” الذي يقول في مقدمته إن الإنسان ليس بوسعه سوى أن يعتز بأحلامه وأوهامه، إذ هي جزء حميم من كينونته، يقدم د. صلاح فضل عددًا من البورتريهات لعدد من الكتاب والمبدعين، راسمًا لهم صورة حياتية وإبداعية، معيدًا على القراء ما قدموه وأنجزوه في حياتهم، وأثرهم في الثقافة، مصريًّا، عربيًّا، وعالميًّا.