د. سمير الخليل
في إحدى “رسائل الشيخوخة/ خطابات الجنون” كتب الألماني “فردريك نيتشة”: ((مهما كانت حياة المواطن طيبة وهانئة في بلاده، تبقى هواجسه الأكثر حدة، ومخاوفه الأكثر تطرفاً متعلقة بالحدود، هناك حيث كل شيء رهين بثباتها، فلا توجد حياة سليمة وصحيحة إلا بصون كرامة تلك الصدوع الجغرافية والتأريخية والسياسية التي طالما أزهقت ملايين الأرواح لحمايتها من الانتهاكات والغزوات)). (ص80).
ونقلاً عن مدونات التاريخ العربي القديم: عندما عرض القائد العربي “محمد القاسم” على الصينيين أحد الأمرين، الإسلام أو دفع الجزية، وإلا فالاجتياح مصير بلادهم. وافقوا على دفع الجزية وبالأرقام التي وضعها أمامهم، ولكنه أصر على أن يدك الأرض الصينية بسنابك خيله وأقدام رجاله، فرفضوا ذلك، وبعد سجالات مريرة ومفاوضات منهكة للطرفين، وأخذ ورد، وافق الصينيون على نقل كميات كبيرة من التراب الصيني إلى خارج حدودهم مع الهند، وبوسع خيول العرب أن تدوسه وجنودهم أن يعبثوا به، فوافق “محمد القاسم” على كراهية ومغض إذن، هي الحدود، تلك الخطوط المرسمة دولياً والمعلّمة بالدم، والتي تحيط الوطن إحاطة السوار بالمعصم. التخوم البعيدة، الموحشة، غير المأهولة، المراقبة بدقة من كل الأطراف، بالسر والعلن. الحدود المتغيرة باستمرار، المتبدلة بعد كل حرب، المتآكلة دوماً، النازفة، المتوسعة أو المتقلصة ما بين مد عسكرتاري وجزر دبلوماسي. الذي يخترقها من الخارج عدو غاز، والذي يغادرها من الداخل خائن عميل، الداخل مدان والخارج مدان. إذن، هي خطوط مكهربة بالشبهة والعار، لكنها فخر الأوطان وسلامتها سبب للاستقرار والسلام عندما تكون مصانة وحصينة ومنيعة.
في مجموعته الشعرية (ليل سمين) الصادرة عن دار ميزوموتابيا- بغداد 2016 لعب الشاعر ((علي فرحان)) دور حارس الحدود، ذلك البطل المقدام الذي يجوب التخوم بحثاً عن الأعداء أو رتقا للثغرات أو معاينة لخرق ما. الحارس الذي لا ينام مهما طال الليل أو سمى.
وحارس الحدود في الميثولوجيات القديمة والملاحم التأريخية معروف بشجاعته الفائقة، وقوة باصرته وبصيرته، ومعرفته الدقيقة لتعرجات الحدود وطوبغرافيتها، فهو من سكنتها الأصليين، أباً عن جد، وهو من تعوّل عليه الروح الشعبية لذلك ورد ذكره في السير التأريخية والحكايات الشفاهية كفارس مغوار قل نظيره، فارس عصي على الموت، لا يعرف الخوف ولا الخوف يعرف طريقه إليه، فهل بمقدور الشاعر وما بين يديه شعره أن يلعب دور حارس الحدود الهمام؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فهل في هذا تفحيل للقصيدة العربية من بعدما أنّثها النقد الثقافي على يد النقاد العرب وعلى رأسهم ((محمد عبدالله الغذامي)) في كتابيه الإشكالوي ((النقد الثقافي))؟ في مراجعة مسحية لمجموعة (ليل سمين) ورد ذكر ((الحدود)) وايحاءاتها والقرائن المرتبطة بها وإحالاتها العلّية والسببية في أكثر من (55) موقعاً، وبوتيرة تصل إلى حد الوحدة المحققة التي يستطيع عقل القارئ من خلالها أن يحيط بمعناها الشامل دفعة واحدة. وتأتي مفردة ((الحدود)) أو تمفصلاتها في قلب القصيدة لتؤكد نسقها الكلي أو بؤرتها اللامة، وبذلك تكون مسوّغاً لقيمتها الشعرية وصلابتها الآيديولوجية.
وبما أن الشعر لا يسعه الإخبار عن شعريته، ولا يمكن اخبار القارئ عن الأحداث التي تعصف بالحدود سردياً. ولأن الحدود هي محتوى موضوعات القصائد، صار لزاماً على لحظة الإغلاق الشعري (نهاية القصيدة) أن تصبح بداية الخطاب الذي من أجله كتبت القصيدة وصارت هدفاً للشعر والشاعر ومجمل الاهتمام بالنسبة للمتلقي.
ولنتلمس بعض من خشونة ((الحدود)):
((وحدود مثل موس الحلاق تجتث أحلامنا العتيقة)). (ص5).
((مطالب بأمور عديدة/ بينما أنا عاجز عن اللحاق بالحدود)). (ص13).
((والفلاحون رصفوا الحقول على الحدود)) (ص 41).
((أيام سيئة للبلاد المعبأة بالحقائب في طريبيل)). (ص 45).
فيدهنون لحيتي ويمسون الغبار/ الحدود)). (ص63).
((بلادي قصية/ والقطار يدهس الحدود بأناة)). (ص 67).
((رهنت حياتي لدى الجنرال/ فإنتحرت طفولتي على الحدود)). (ص84).
((وأبوح للأرصفة برغبتي للحدود/ أيتها الحدود البعيدة تطأك عيوني بالإرتقاب)). (96).
((يسوطه بالأبدية إلى الحدود المعلّمة بالسحب المدخرة)). (ص104).
((وشيع البلاد حتى حافات الخارطة بـ”21″ قذيفة)). (106).
أن معظم قصائد المجموعة تترك القارئ لاهثاً ومذهولاً من فرط الرعب الذي احاق بالبلاد وبحدودها تحديداً. لم نجد شرحاً تصريحياً، بل عرض للمعاناة في صور وافية للرعب والهلع والسواد، في قصيدة (إقبال رحمة الله) تقرأ: (أخفت برأسها بلداً/ أو أشعلت ثوبها/ أو بلداً ربحت/ زاحفاً ملطخاً الشارع بأمعائك الشرهة/ أعني البلاد المطروحة على السرير منكمشة/ للريح صفحات عديدة/ صفحات بيض/ مثلاً قارباً لليابسة/ صفحات سود/ مثلاً حين تقتلع حيوات كاملة من جذورها)). (ص 62 وما بعدها). بهذه الصور المتفردة والجمل الشعرية الانزاحية التي لا حدود لشعريتها يواجهنا النص ليرسم صورة كليّة لرعب الواقع وموت البراءة وهول المعاناة.
أما قصيدة (أمرأة بيضاء) التي تعد من أطول القصائد وأكثرها سواداً، وأكثر تأصيلاً لما بداخل الحدود من وطن ومرابع وواقع قلق، فهي تركز على تبادل الأدوار بين اللونين الأبيض والأسود في علاقة نوسانية تداخلية لا ينجو منها أحد، فالأبيض يتلطخ بالأسود حتى يفقد لونه (هويته)، والأسود يخفت شيئاً فشيئاً ليتحوّل إلى الون آخر لا هو بالأبيض ولا هو بالأسود، وبهذه العملية التبادلية القسرية ستكون الحقائق أكثر إزدواجية مما هي في الواقع المعطى، أو اكثر إنشطاراً مما هي في الحياة العادية، لأنها محدودة وملموسة بالتجريد والتعمية وليست مجرد وقائع أو أفكار عامة نتعامل معها كظواهر أو فقاعات:
((أسودك إحتلني/ ولطخ أصابعي بحبره الأبيض/ موقنين ببياض سوادك/ وإحتلاله مساحاتنا التي بلا لون/ عندما أموت/ سيكفنني سوادك الأبيض/ عندما تموتين/ سيتغير كتاب الجغرافيا/ فأفريقيا ستطلخ وجهها البودرة/ وتموت)). (ص 74 وما بعدها).
كل ذلك كان بسبب غرباء من وراء الحدود: ((سماسرة كانوا/ رسلاً يضيعون البلدان أو يسحبونها من أبنائها)). (ص 16). ((فما بال الشعراء على الجنود؟/ الجنود حاملو الوطن على الأكف النحيلة/ أولاد الخيبات/ نذور الأسلاك والرايات المعتمة)). (ص 32 وما بعدها).
لقد جاء العنوان (ليل سمين) كصرخة أو اعتذار من لدن ((حارس الحدود)) ذلك الباسل المغوار لأنه فشل في أداء مهمته بسبب الظلام الدامس الذي لف البلاد. الليل السمين الجشع الذي ابتلع البشر والشجر والحجر: ((ليل يتلوه ليل/ وليل/ وليل/ بسخام ورماد وحرائق/ …/آه أيها العراق/ هل تستطيع إيوائي)). (ص 92).
وهكذا استطاع الشاعر ((علي فرحان)) أن يحافظ على أنوثة القصيدة (سلميتها) من بعدما حاولت أن تفحّل نفسها ولم تنجح، فحارس الحدود وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه لأن الأرض التي يقف عليها لا يعرف عائديتها بعد ان أختلط الأسود بالأبيض وأنتجها لوناً مسخاً مشوهاً لا أصل له ولا جذر ولا يعني أحداً:
((البلاد ليست بلاداً/ لكن الأفاعي أفاع/ والحجر أو القذيفة/ شجّ جبيني)). (ص23). ((ففي الشتاء الماضي/ نسيت قميصي في الناصرية بعد خروجي من أربيل)). (ص 23). ((فمن يعاتب بلاداً ضربتها الصواعق)). (ص 28). فالنصوص الشعرية تحيل إلى شاعر يمتلك موهبته ويصوغ همومه بلغة عالية الانزياح والشعرية والألم الأسود الذي حفر الوطن لونه الداكن في نفس الشاعر فصار ليله سميناً.