لا حدود للمفردات والمفاهيم المهينة التي استردت نفوذها وسطوتها مع هيمنة حثالة المجتمعات على مقاليد امور الدولة والمجتمع؛ منها على سبيل المثال مفردة “مكرمة” والتي تعرفت عليها أواسط السبعينيات من القرن المنصرم، عندما توقفت امام بنايات معهد التكنولوجيا في بغداد، قافلة من العربات الحديثة المخصصة لنقل الطلاب، وقد علقت عليها لا فتات كتب عليها (هدية الأب القائد لابنائه الطلبة) ولن انسى ما حييت ردة الفعل العفوية لصديقي الذي قال: ” شنهي هاي يعني الريس باع صخول ابوه واشترالنه بيها سيارات..؟”. هكذا كانت ردود الفعل الطبيعية تجاه ممارسات متنافرة وما كان سائداً من وعي وروح حضارية لدى العراقيين، لكن مع مرور الزمن وتمكن هذه العصابة الغاشمة من فرض هيمنتها المطلقة على تفاصيل حياة الدولة والمجتمع؛ تحولت هذه الممارسات المشينة الى تقاليد أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من تشرذم وعجز وهوان. مثل هذه المفردة “مكرمة” وغيرها من مفردات العصور الغابرة؛ تتنافر تماماً وما ارتقت اليه المجتمعات التي أكرمتها الاقدار بسن التكليف الحضاري؛ كقبائل الهوتو والتوتسي التي نفضت عنها مثل ذلك الزنجار لتبني رواندا الجديدة مفخرة البلدان الافريقية اليوم.
كثيرا ما يردد لدينا (ولا يختلف في ذلك من لا يفك الحرف أو المدجج بالالقاب العلمية الطنانة) من كون العراق أحد اغنى البلدان وبمقدور عائداته الريعية وحدها، ان وزعت بعدالة ان تغنيهم جميعاً عن الحاجة المذلة للحصول على العمل، أو ان الدولة مسؤولة عن تعيين جميع الحاصلين على الشهادات الجامعية بمستوياتها المختلفة، وغير ذلك من القناعات المنحدرة الينا من ثقافة “المكرمة واخواتها”. مع مثل هذه القناعات والمفاهيم البالية؛ لا يمكن انتظار اية زحزحات جدية في المشهد الراهن، لا سيما وان سوق معيلنا الاساس (النفط) لم يعد ولن يعود كما كان سابقاً، وما هرولتنا للحصول على المزيد من القروض الداخلية والخارجية، لتسديد مستحقات الجيش العرمرم من الموظفين والمتقاعدين والمتعاقدين؛ الا اشارة صارخة لما ينتظرنا من مفاجئات بالمستقبل القريب. مثل هذه الكارثة المحدقة لا يمكن تفاديها بنسخ محلية من السوبرمانات أو العنتريات الاعلامية والمزيد من القذائف الدخانية، وهي ليست من شأن الكابينات الحكومية مهما ورطت نفسها بمنهاج واعد، بل هي تحتاج الى وعي جديد واستعداد مجتمعي لتقديم نوع آخر من التضحيات الايجابية، أي من أجل أنفسهم لا من أجل مغامرات نزقة لحثالة المجتمعات كما جرى لنا مع قوافل اللصوص والقوارض التي تشفط كل شيء ولا تترك خلفها سوى المكرمة المهينة..!
لقد مر ما يقارب العقدين على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، مرحلة تتصدى فيها القوى والشخصيات التي تنطعت للنهوض بوظائفها، لمثل هذه الممارسات والتقاليد المهينة لآدمية العراقيين وتطلعاتهم المشروعة في الحياة الحرة والكريمة بعيدا عن عصور الذل والخذلان؛ لكننا ومع كل هذا الصخب والضجيج والعياط والعجاج، لم نفارق ولم نتخفف من هذه التركة القبيحة، وما زال المتصدون لسنام السلطات يتعاطون معها بوصفها هبة رمتها اليهم الأقدار، لا مسؤولية ثقيلة لتقديم أفضل المشاريع واعظم التضحيات لخدمة الشأن العام. كذلك المجتمع (افرادا وجماعات) ينتظرون من السلطات ان تتقاسم وأياهم بعضاً مما وهبتهم الأقدار من أسلاب وغنائم، وعلى هذا المنوال لن نحصد سوى المزيد من الفزعات لاهانة بعضنا للبعض الآخر..
جمال جصاني