محمولات السرد ولعبة اللغة في مجموعة “جسد في ظل”

علي لفتة سعيد

تأخذ بعض النصوص في ساعات تلقيها معتمدة على بعض العتبات التي يضعها كاتبها لتكون دالًا لمدلول ما سيأتي من مدونات داخل النصّ الكلي سواء كان قصة أو رواية لتبقى مشاغلةً للمتلقّي الباحث عن فكّ شفرات النصّ دون إغفال أية عتبة ممكن أن يدوّنها الكاتب حتى لو كانت هامشًا أو مصدرًا أو معلومةً جانبية.. وهو ما يمكن استخلاصه من عدد من العتبات في مجموعة القاص والروائي المصري عبد النبي فرج المعنونة ( جسد في ظل ) والذي يمكنه أن يمنح العديد من لحظات التفكير بماهية القصد لهكذا عنوان وما هي التأويلات التي يمكن أن يستخلصها المتلقّي بحسب قدرته وفهمه وعلاقاته العديدة مع فهم التلقّي، وكذلك مع قدرته على فكّ الرموز.. فجسد في ظلّ يمكن أن يعطي مدلول الفراغ المتحرك المرافق للجسد الأصلي، سواء كان إنسانا أو أي شيء آخر في هذه الحياة، شجرة أو جمادا أو حيوانا.. ولكنه ايضا يضع عتبةً أخرى لها مدلول كبير الى حدّ التماهي مع مقابلة العنوان مع دلالة ذكرها وهي الآية الكريمة  ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) وكذلك اية أخرى ( كل نفس بما كسبت رهينة ) والآيتان لهما القصدية الجمعية بعد ان يتم تنفيذ فعل القراءة ليأتي دور كجمع الحاصد القرائي لماهية العتبات التي تتوّج بالعتبة الثالثة المختصرة جدا لتكون مدلولًا آخر من مداليل الفعل التدويني لأفكار أو ثيمات او حكايات القصص، والعتبة هنا هي الإهداء ( الى أبي ) والذي لم يضعه ما بعد العتبة الثانية، بل جعله مفتاحا للقسم الـول من القصص، وهي هنا قصدية ملمحية إن  الكتاب ليس كلّه إهداء للأب، بل في قسمه الأول الذي علينا ان ننتبه الى القسم الثاني أنه لم يضع له اهداء.

إن بنية الكتابة في مجموعة ( جسد في ظل ) والتي تعطينا أهمية الحركة الدائرة حول الشيء الآخر المزاح من الأصل ومراقبة الانفعالات الأشياء المرافقة التي يمثلّها الظلّ فهو جعل كلمة ( جسد ) نكرة مثلما جعل كلمة الظل كذلك، وهو ما يعني انه لا يحدّد أمرا ولا يريد الإشارة الى شيء معيّن أو يجعل البطل هو الشيء الآخر، وتحريك الشيئية لتكون هي الإزاحة عن الفعل الانساني ان جاز التعبير، ولهذا نراه في القسم الأول يبحث عن لعبةٍ سردية تطارد العنوان وكأنه يريد سكب الثيمة على طريقتين.. الأولى: المقدرة السردية التدوينية في عالم واحد يتخذ من الاسم العلم في القصص التي تتمحور على شكل أربع قصص بذات العنوان، وقصتان بعنوان واحد وقصة واحدة لها عنوان مستقل.. وهو قد أتخذ من عنوان (عايدة يوسف ) في القصص الاربعة و( رامة التنين ) قصتان و(زفرة الحب الأخيرة ) القصة الاخيرة في القسيم الاول ويمكن ملاحظة الثيمة الخارجية من لعبة التدوين من خلال العنوان، والعلاقة بين عايدة والتنين والحب وزفرته.. لتبدأ عملية الكشف عن عمليات الترابط السردية التي تخيط بها عملية تدوين الفكرة على شكل سرد إبداعي وليس سردًا حكائيا.. ورغم ان اللعبة السردية تكاد تكون متشابهة في القسمين من حيث تناول طريقة الطرح التي تتراوح ما بين الغائب والمتكلم والمخاطب أو التداخل بين هذه الطرق السردية، فإن اللعبة في القسم الأول هي انه أرادها لعبةً فنية تقسم حكايتها الى عدّة أقسام، ليس بمعنى الاختلاف المكاني بل بمعنى التطوّر الزمني للشخصيات التي تريد البوح بما عندها على لسان راويها.. فأغلب النصوص فيها ذلك الحراك الاجتماعي المغطى بفعل أيديولوجي أو لأقل فعل مسبق كردة فعل لواقع سياسي تعيشه شخصيات القصص لهذا فإن عملية التدوير في بنية الكتابة خضعت إلى معيارين أساسين .. الأول : إن الواقع ليس نتاج فعل الشخصيات، بل هو نتاج قوة وما الشخصيات إلا صورة معاكسة، وان كانت مشوهة لتلك القوة الخارقة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية .. والثاني : إن الشخصيات الرئيسة كانت تحاور ذاتها عن طريق الراوي/ الكاتب / حتى وإن كانت بطريقة الغائب التي كانت هي المسيطرة على أغلب نصوص المجموعة في قسمها الأول والثاني الذي ضم 19 قصة قصيرة.

إن بنية الكتابة التدوينية في هذه المجموعة لا تعتمد على كمية اللغة التي هي هنا تقوم بعملية الرصد المكاني وتثوير الصراع بقدر ما تعتمد على كيفية إنجاز الحكاية، أو الحدوتة بثوب سردي لذا نرى قصة طويلة بأكثر من ثلاث صفحات وقصة قصيرة بصفحة واحدة، أو قصة بثلاث سعات حكائية، ولها سعة أخرى في القسم الثاني وأقصد بها ما يتعلق بعايدة التي تمثل المرجعية التاريخية من جهة مثلما تمثل المرجعية الاجتماعية من جهة أخرى في حين جهتها الثالثة ترتبط بكونها أي عايدة الهدف الذي يسعى الكاتب لبلوغه بطرح أفكاره. وهو ما يمكن تلخيص هذه المقدرة الحكاية على شكل ينبوعين يضخان الفكرة لتشكل مجرى نهر السرد. الينبوع الأول: ما تحمله الفكرة من كمية كبيرة من جانبها السياسي الاجتماعي الذي يريد الكاتب إيصاله إلى المصب العام وهو المتلقي .. والينبوع الثاني : ما تحمله طريق السرد من قدرة على قيادة ضفتي النهر لإعطاء الدهشة إلى المتلقي ومنحه قدرة المتابعة لفحوى الصراع والفعل الدرامي الذي تتمتع به شخصيات الحكاية.. وهو ما يعني حصول غاية على ابتكار اللعبة التدوينية من خلال التنقل بين الواقع عبر استخدام مفردات شعبية بلهجة مصرية خالصة وكذلك عبر استخدام المنولوج الداخلي لكل شخصية التي يريدها أن تكنون معبرة عن الراوي الذي يقوده الكاتب/ القاص بمعنى أنه يريد أن يستل المخيلة من أرض الواقع ويمنح الواقع مفعول المخيلة كي تبقى عملية الرصد قابلة للمناقشة أثناء عملية التلقي خاصة وأن الجانبي السياسي هو الأعلى في مناطقة أوضاع البلد من خلال الأمكنة والشخصيات والماضي والحاضر وحتى التاريخ وهو مما جعل بعض القصص تتداخل فيها طرق السرد بين الغائب والمتكلم، أو بين المخاطب والغائب لدمج السرد في روح الفكرة، والتلاحم ما بين ما يريد المتلقي وما يريد المكاتب من علامات دالة لمسيرة الفكرة عبر ينبوعي السرد.

من جهة أخرى تبقى اللغة هي حصان اللعبة، الذي يسابق الفكرة الموسومة في وجه صفحة السرد.. فاللغة هنا تريد رسم أبجدياتها منذ العنوان حتى النهاية وهي لغة تعتمد على أربعة محمولات .. المحمول الأول : إنها لغة السرد المتعارف عليها في قيادة القصة من استهلالها إلى نهايتها ومن ثم التوحد مع العنوان .. المحمول الثاني : إنها لغة لا تريد تبيان ملامحها على أنها تريد سبك الحكاية بطريقة هامشية، أو متعارف عليها بل هي لغة تقود اللعبة إلى محك السرد.. المحمول الثالث: إنها لغة قادرة على منح الدهشة ليس من خلال لون المفردة وشعريتها بل من خلال الانتقالات العديدة بين اللهجة، واللغة المدونة، والأسماء لكي لا تبقي الأثر المعجمي على أنه مفعول سردي ( رغم أن البعض قد يشكل هكذا نوع من اللغة في تداخلاتها ).. المحمول الرابع : إنها لغة قادرة على وضع المعالجات السردية في تفاصيل تثوير الصراع عبر اختيار المنطقة التي تتلاعب بها طريقة السرد.. إن جمع هذه المحمولات يعطي المتلقي فرصة لمعرفة خبايا النص وغاياته ومن ثم الوصول إلى منطقتي القصد والتأويل الذي يحتاجه كل نص لفك شفراته.. ومن هذه المحمولات يمكن معرفة أيضا أي مستوى استخدام الكاتب ليكوّن أسلوبه في القصص.. وهو ما يعني تأشير وجود المستوى الإخباري المتزعم لكل المستويات الأخرى التي ترافقه وخاصة المستوى التصويري الذي يعني بمراقبة اللغة أكثر من مراقبة فعلا الشخصيات أو الانتقالات المكانية والزمانية.. مثلما كان هناك الكثير من المستوى المونولوجي إن صحّت التسمية التي تقود كثيرا فعاليات القص للانتقال بالحكاية من مستواها الثيمي إلى مستواها السردي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة