المدار الفكري المتحفز:
عدنان أبو أندلس
قدْ يبدو جلياً ، من أن عنونة النص هذهِ ؛ تحفز المتلقي و تستدرج للقِراءة رويداً رويدا كي يكملها بنفس واحد ، لِما لها من غرابة توظيفية ، حيثُ يتراءى لهُ المزيد من الغوص بها في أكثر من النصوص الواردة في مجموعتهِ الشعرية « حياة في حقيبة « الصادرة عن المركز الثقافي للطباعة والنشر، بابل ، دمشق ،القاهرة- 2016 ، كونها غريبة ولطولها من بين القصائد ، كذلك لا يُنسى الود الذي يربطهُ بتوأمهِ الشاعر « ركن الدين يونس « فجاء تحبباً واستذكارا ، أن السترة حين نطقها كمفردة تشعرنا بالدفء ، الحميمة ، السفر ، بوصفها غطاء ، فكرة ، اعتبار عيني ، وقد جعلها تدور على محور دلالي بمثابة ينطلقُ منها . أو ربما حياة يُصارع بها دورانياً لمقتضيات مرحلةٍ ما ، أو تميمة تحميهِ من شر، كتعويذة سحرية يتفادى بها الاختراق . أن النص زاخر بتشبيهات باستقطاب استحالات عصية مثل ،بساط الريح ، طاقية الإخفاء ، فجاءت معبئة بـ أحزاننا سويةً ، كما هي، حياة في حقيبة ، التحفز للرحيل فكرياً إلى أقاصي الدنيا البعيدة بمدار فكري ، هذا التمظهر الذي يطرأ في كل قراءة جديدة ، حيثُ البحث عن شيءٍ مجهول ، سفر بلا نهاية ، وكما ذُكرت أي « السترة « في رواية الكاتبة « أجاثا كريستي « بـ عنوان « ذو السترة البنية « .
هكذا جاءت رؤى الشاعر الغريب ، تناوب في توظيفها ،الشكلي ، اللفظي ، مما نتج عن صراع وبمحاورة نفسية بينهُ وأدواتهِ التي امتدت على جسد النص وغطتهُ بالتمام والمطابقة ، مما ولد ذاك الاشتغال بتعانق مادي وروحي ، مكاني وزماني « التل « و « الانتظار « ويصور لنا الحياة الضاجة بأبعادها المتصارعة ، يستدل من ذلك هو « أن الوصول « إلى الخلاص» ، فهو المنتصر الذي لا مناص منهُ ، قد زج شخصيات تاريخية للربط مثل « كلكامش – أنكيدو « وأماكن مثل ، بابل ، وما يقارب من التماهي بـ عشبة الخلود ، لما لها أثر في حركة النص وغورها إلى عمق الماضي.
المعادل الحياتي:
كما أسلفنا من أن مفرداتهِ محورية يُحركها كي يبتغي غرضهُ المطلوب ، فحين التمعن فيها ، يشكل لنا التنقل ، سترته ، الرحيل ، السفر .
والذي يتناوب بين أسطرة النص ،فـ سترة ، المحرك الأساسي للاشتغال الكلي .. فهناك مفردات تركت لنا خيطاً مضيئاً في مسار النص منها ،ترقب ،انتظار… إن الاستهلال بـ سترتهِ .. وللتأكيد من أن المفردة جاءت أيضاً في بدء العنوان الثلاثي ،ومستهل النص كدفقه محركة لمسارهِ ،والتي أثارت في القارئ مزيداً من التساؤل البديهي بـ لِمَ وظفت بهذه الصيغة ، وكيف ؟!… يستدل من خلال متابعة القراءة التكرارية … جعلها تميمة غير مخترقة ، أيقونة ، ذكرى ، أراد منها وبها الوصول إلى الهدف ، الرجاء، رغم أنها تُمثل الحقيبة بمعناها القريب للذهنية الفكرية …
والحياة ربما . إضافةً إلى أنها كِسوة اعتبارية بمحمولها الدلالي لهُ ، تتزامن مع وقوع الحدث الآتي … مروراً للتغيير اللاحق ربما . إن مفرداتهُ ملموسة كـ سترة ، مقاعد ، تل ، طريق ، عشبة ،سور ، نبتة ، هذه الأدوات الاستدلالية تتفاعل فيما بينها لتحرك دينامكية الثابت ، النص شعورياً ، كذلك تقابلها أخرى محسوسة بتوظيفها كـ غيمة ، دفء ، ، أثر ، ظلام ، كلها من مثابات الطريق إلى المجهول : سفرة كلكامش .:
غيمة تسافر أنى تشاء
مرة وجدت في حفريات بابل
وقد شاركت في إقناع كلكامش
بالعدل بين الرعية
وإن بناء السور ليس مهماً
لكنها ، صفقت له حين عاد منكسراً
لضياع عشبة الخلود
التصريح المستدرك اللاحق:
يمكن التحسس الأكيد ، بأن السفر ، نقطة ارتكاز واضحة من خلال الاستنباط من عناصرهِ الدالة بذلك .. المقاعد ، الانتظار ، البقاء ، السباق ، الوصول ،الطريق ، الأثر ، الرسائل ، السعاة ، الغياب .
.. هذه التي تمحورت وزادت الفاعلية باشتغالها في انتظار المسافر ، الغائب ، القادم من بعيد ، كـتماهي مع « انتظار غودو « الذي تتبعنا منهُ الأثر وشيفرة تدلنا على حل اللغز عبر عنصري ، الاستذكار والتخيل ، لذا نتج عن تدفق شعوري مميز للتصريح بهفوات قد حصلت من الثابت المتماثل بالتناوب التكراري في الوشائج التي تربطهما معاً ، من صيغة أسمي الإشارة» أنا وأنت «كخطاب صريح لتحميل الذات بما يثقلها من لوم وعتب متدرجاً ، نركض ، نلهث ، نسقط ، وهذا ما يذكرنا في تصريح للشاعر التركي الكبير « ناظم حكمت « في مقطع نصه « إذا لم تحترق أنت ، وأحترق أنا ، فمن يضيء هذه الظلمات « ظلمة العالم « ؟..
يقول لي
المقاعد محجوزة لأخطائنا
هل ارتكبنا حماقة
حين انتظرناه
حين تقطعت قلوبنا
من أغانيه عن الانتظار
هو ابتكر لعبة البقاء
ونحنُ صدقنا
ماذا عسانا نفعل أنت
وأنا ……………
اللائمة الموجعة عتباً:
بدأ استهلالا للمقطع بـ لو حرف الشرط ، طالما هي سفرة روحية أكثر منها مادية ، فجاءت بتركيبها الشكلي متدرجة بنفسها الشعري ، لو كنا نعرف ، لو كنا ندري ، لو كنا ،لو كنا ، لو رافقنا ….. إلا أن الفقرة الأخيرة اختلفت بـ رافقنا كونها جاءت ربما بعتب أو لائمة ، حيثُ من أن الانتظار لم يجدِ نفعاً ، كون السفرة ، الرحلة ، عقيمة والتي لم يحصل منها سوى السرقة ، الجنون ، الموت . يلاحظ أن « التل «حُمل دلالياً بمحوريتهِ الذي وظفت في المقاطع الأربعة ، بوصفهُ مكان شاهق يتخذ منهُ كموضع ترصد ومراقبة في انتظار ،المسافر ، الغائب ، الذي هو ربما « كلكامش « في غيابهِ وسفرهِ المشخص المعروف .
لو كنا نعرف الطريق
لذهبنا خلفه
لكنهُ الأثر الذي اختفى
قبضنا قبضة منهُ وجلسنا على التل …… إلخ
…………………
لو كُنا ندري
أن أصابع أنكيدو
هي التي عبثت بالصورة
لأعلنا القطيعة مع التل
……………..
لوكنا
جلسنا على التل
ننتظر ……..إلخ
……………..
لو رافقنا كلكامش في رحلتهِ
لكنا فضلنا
أن نبقى أنا وأنت
نجلس على تلة في بابل
……………. تغطينا سترة ركن الدين يونس.
التناص المتطابق:
ومن جمالية التوظيف الذي جاء كـ تناص ورد بجملٍ عدة ؛ منها « وقبضنا قبضة منهُ « والنص القرآني « وقبض َقبضة ًمن أثر الرسول « كونهُ أثراً يدلُ على الكشف ، قد حرك فضاء النص بخفة يد مثل اختباء كمين للمراقبة ، أخفت تعيين كنهة الهدف …
كذلك جاء تناصُ الآخر باستذكار « لوركا الشاعر» المعدوم رمياً بالبلاد «
و « رمياً بالرصاص « ..
و» تركنا التل وحيداً «
ومع مقطع من نص الشاعر محمود درويش
« تركنا الحصان وحيداً «
كلها متماثلة بالشكل الذي صاغ منهُ رؤاهُ هذهِ ، فـ السترة تمويهاً ، والأثر متطابقاً ، كلاهما يُسايران رؤاهُ الذي حلَّ بهما الطمأنينة التي تجسدت بعد طول انتظار إلى لا شيء سوى الفرح والدفء والحميمية التي استشعر بها في السترة .