الحاجة… رأس كل بداية

جمال جصاني

لا حدود للكوارث والمحن التي مرت على تضاريس هذا الوطن المنكوب، وكذلك الهزائم التي لحقت بمحاولات انتشال مشحوفنا المشترك من مثل تلك المصائر والاهوال. لقد مر وقت طويل على لحظة خلاص العراق من أبشع تجربة توتاليتارية عرفها تاريخ المنطقة الحديث، الا ان جميع استعراضاتنا في مجال اصلاح وتغيير الحال والاحوال لم تحيد عما احتوته الاضابير الضخمة من الهزائم والخيبات، حيث لا شيء سوى المزيد من الردات الحضارية والوطنية. وما البؤس النظري والثقافي والفكري الذي تعاطى مع كل ذلك المشوار الضخم من التجارب والخيبات، الا دليل لا يتناطح عليه كبشان على ذلك العجز العضال. هذا الارث بمساوئه ومحاسنه لا يحتاج منا الى المزيد من المزاودات العقائدية البائسة وتراشق التهم وفزعات شيطنة الآخر المختلف وغير ذلك من بضائع الموتى؛ بل الى التعاطي معه عبر السبل التي اعتمدتها المجتمعات والبلدان التي اكرمتها الاقدار بسن التكليف الحضاري، حيث كل الهذيانات والسرديات والنظريات كما قال غوته “رمادية اللون وشجرة الحياة خضراء على الدوام”.

عبر تصفح وتمعن في خارطة الزحزحات (الصغيرة منها والكبيرة المادية منها والقيمية)، نجدها كانت مسبوقة بـ “الحاجة اليها”. وهنا علينا البحث والتنقيب عن تلك “الحاجة” للاصلاح والتغيير في مضاربنا وهل هي موجودة فعلاً، أم هي مما تفرزه مخيلات وذهنيات الافندية المثقلة بالتمنيات والطوباويات، التي غالباً ما ترتد علينا بعواقبها وفواتيرها القاسية. طبعا هذا لا ينفي الدور الريادي للمثقفين والمفكرين العضويين لا “دغل الانتلجينسيا” في صياغة مثل تلك الحاجات الموضوعية والتاريخية، لكن قبل ذلك كانت قافلتهم قد اقتفت أثر تلك الحاجات، لتنخرط في ادارة دفة مركبها صوب غاياتها المتفقة وناموس الاشياء وديالكتيك حركتها وصيرورتها. هنا نعود للسؤال الذي نسعى من خلاله التقليص من مساحة العتمة والالتباس في المشهد الراهن؛ هل ثمة حاجة فعلية للاصلاح والتغيير وغير ذلك من الشعارات الطموحة..؟

من المعروف ان الحاجة لا تتحول الى واقع من دون وجود الامكانية لذلك، فتنبثق الحاجة استناداً الى بنية تحتية تتطلب ذلك التغيير، مع نشاط عقلي يعضد ذلك، وفي العراق لا نجد امامنا سوى حطام ما تبقى من اسلوب تقليدي وطفيلي لانتاج الخيرات المادية وفرهدتها، وما يفرزه ذلك من علاقات وشبكات قيم متخصصة في اعادة تدوير الردات الوطنية والحضارية، يرافق كل ذلك حطام من البشر و”النخب” والقيم لم يعرفه العراق طوال تاريخه القديم منه والحديث. ما الذي يمكن أن يعول عليه دعاة الاصلاح والتغيير والثورة والانتفاضة الحاليين؛ على السلالات الجديدة من شيوخ العشائر والقبائل مثلاً، أم على الاقطاعيات السياسية التي شفطت اليابس والاخضر، أم على سكراب الاحزاب والنقابات التي نخرها النظام المباد ومسخها بشكل ممنهج طوال اربعة عقود من هيمنته المطلقة على تفاصيل حياة ما تبقى من دولة ومجتمع..؟ وهنا لابد من الاشارة الى الفرق الشاسع بين الحاجة للتغيير وما يرافقها من وسائل وادوات (الملاكات والوعي والتنظيم) لتحولها الى واقع، وبين ركام الغضب والاستياء وما يرافقهما من عجاج الثارات والانتقام. فالعجاج مهما طال به الزمن لابد له من الركود، لتعود الامور وفقاً لمشيئة المعادلات والاصطفافات الفعلية للواقع، وخارطة توازن القوى والمصالح ومقياس الهمة والوعي؛ لا تشير الى علامات تعافي تفضي لحاجات فعلية للتغيير والاصلاح على المدى المنظور..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة