الصدى الذي في الرأس

هيرتا مولر
ترجمها عن الألمانيّة عارف حمزة

بعد فترة وجيزة من خروجي من رومانيا، قضيتُ الكثير من الأوقات على الطرقات مسافرة، ولطالما رغبتُ بأن أتواصل مع أصدقائي الذين بقوا هناك. بحثتُ في الأمكنة، التي تواجدتُ فيها، عن بطاقات بريديّة، ولكن كانت توجد فوق الكروت السوداء والبيضاء تلك الأقوال الحمقاء، التي أرادوها أن تكون مُضحكة. أما البطاقات التذكاريّة المصوّرة فكانت تحملُ ألواناً بشعة وعاقّة! وهكذا كانت السماء فوق جميعنا بلون أزرق سميك. جميع الأشجار لوّنت بأخضر سميك، وأسقف البيوت كانت بأحمر سميك.
في يوم ما اشتريتُ بطاقة فهرسة وقلم صمغ وبدأتُ في القطار، أو في الطائرة عندما كان يُسمح للمرء أن يأخذ معهُ مقصّ أظافر، قصّ صور وكلمات من الجريدة. على بطاقة ما ألصقتُ الصورة مع عدّة كلمات: الكلمة العنيدة إذن، أو ملمسُ الشهوة عندما يوجدُ مكانٌ حقيقيّ، أو النشّالون الذين هم أنا!
ألاعيب. كنتُ مندهشة؛ لأنّ كلمات وحيدة كانت تستطيعُ أن تحكي حكاية؛ لأنّ بضع كلمات تستطيع أن تُؤلّفَ ذلك الغموض، وذلك لأنّ القليل من كلّ نوع يُوحي بقصّة سرعان ما تتابع جريانها. لاحظتُ ذلك حينها؛ فالقصص لم تكن على البطاقة أصلاً.
مع الوقت صارت النصوص دائماً أطول؛ تشكّلتْ قصص من ألوان وخطوط مختلفة. في كلّ
«القليل من كلّ نوع يُوحي بقصّة سرعان ما تتابع جريانها. لاحظتُ ذلك حينها؛ فالقصص لم تكن على البطاقة أصلاً» مكان كانت الكلماتُ تنتظر. كان يجب عليّ فقط قصّها. كانت تنتظرني خارج نفسي، لم يتوجّب عليّ، كما في الكتابة، البحث عنها في رأسي.
كانت النصوص ترنُّ؛ لأنّ الألوان المختلفة للكلمات كانت تطنّ، وتُعطي لها أحجاماً مختلفة وأصواتاً مختلفة. على كلّ بطاقة كان النصُّ يصعدُ مع الصورة، كما لو أنها تصعد خشبة المسرح. كلّ بطاقة صنعت عرضها الصغير.
وعلاوة على ذلك كانت تأتي القافيةُ، ولكن المرء لا يسمح لها بالظهور في الكولاج. لا يسمح لها بتخطّي دورها. على الرغم من أنّ القافية هي المحرّك في الجملة، إلا أنّه يجب على الجمل أن ترنّ هكذا، حينما تستسلم القافيةُ لها من تلقاء نفسها. لقد أعطتني شعوراً كبيراً بالألفة، وهي تملك حق المشاركة في الرأي. تستطيعُ (القافية) أن تحزن، تغمز، وتستطيع أن تهزأ من كل النص. إنها بالفعل إيقاع وحركة، لأنّها تشدّ الأبيات ببعضها. إنّها مثل حارس، ولكنّها أيضاً مُحتالة. تضبط النص من ناحية، ومن ناحية أخرى تُطلق جماحه، أينما تُريد. إنّها مُتقلّبة تماماً وتطلبُ منّي العبارات، تلك التي لم أتوقّعها قبل ذلك بلحظات. كثيراً ما أتساءل، كم يطولُ رنينُ كلمة صغيرة. إنّه الصدى الذي يدويّ في الرأس.
عند القص تُفصح لي الكلماتُ عن مكوّناتها. في كثير من الكلمات الألمانيّة يكمن في داخلها ما هو رومانيّ. (..) ويكمن ما هو ألمانيّ في مفردات رومانيّة كثيرة (..)، إنّ ذلك ليس شيئاً غريباً. كم من الكلمات التي تختبئ، بشكل غير ملفت، في كلمات أخرى؟ (…).
عندما أنظر في أدراجي أفكرُ؛ بأنّه توجد كلمات تحبّ الإحتشاد، وكذلك تلك التي تريد أن تبقى
«الكلمات تتناسل وتصبح دائماً أكثر. تستلقي بأطرافها السمينة، وتصبح، مع مرور الزمن، مُترَبة، ولأنّني ما عدتُ أستطيعُ استخدامَها أكثر؛ لوّثها الغبارُ ولوّث صمغَها» منعزلة. هذا يتوقّف على أحرفها الأولى؛ تلك التي تبدأ بحرف «ج» أو «س» أو «و» غالباً ما ترفع إصبعها، وهي مستلقية، إلى الحافة العليا للأدراج. هذا يعني بالنسبة لي أنّها مُشاغبة وتحبّ الاحتشاد. مع أحرف أخرى مثل «هـ، ي، ل» أو حتى «ب» تكون كلماتي نادرة نوعا ما، وتبدو لي خجولة وتحبّ وحدتها. الأمر يتعلّق برقم الدرج، وليس بمحتواه. كلمة «قطيع»، على سبيل المثال، تبدو منعزلة على الأرجح، وأعتقد أنّها لا تُفضّل الازدحام.
علاوة على ذلك، تكون الكلمات المقصوصة جميعها مختلفة. كلّ كلمة يكون لها غرض مختلف، ممكن حتى أن تكونَ شخصاً، شكلاً، أحجاماً مختلفة، لوناً. الخطوط مهمة جداً للكولاج تماماً مثل معنى الكلمة. في حقيقة الأمر، فردانيّة الكلمات، التي يبدو لها نفس المظهر عند لمسها، مُقيّدة باللاصق. آخذ رقعة شطرنج صفراء أو واحدة خضراء، أو كلمة كبيرة تطغى على النص، أو واحدة صغيرة تُريد أن تختبئ، ولا تترك لنا مجالاً لتوقّعها. ذلك يتعلّق بالصورة العامة للكولاج ومن الكلمات التي أواجهها.
«لأنّ الكلمات تأتي من مجلات مختلفة، فإنّها تجعل اختلاف نصوصها حسّياً. هو تواصل كثيف مع اللغة، لأنّ المرء يجب أن يلمس كلّ كلمة» لأنّني أنقذتها في الواقع.
عملية اللصق هذه ربّما ترتبط كلّها مع فترتي المُبكّرة في رومانيا. يوجد هنا عدد لا يُحصى من المجلات الملوّنة، والورق الجيّد، والكثير من النصوص، والتي قُرئت بشكل عابر، قبل أن تُرمى. وهذا ما لم أستطع الحصول عليه في رومانيا؛ إذ لم يكن هناك سوى الصحف الحكوميّة الرماديّة، المُتسخة بزيوت المحركّات، وذات الرائحة الكريهة. لا شيء غير ذلك. لا يحصل المرء من تصفّحها سوى على أصابع سوداء.
سابقاً، كان يجب عليّ حملَ الكتابة السرّية من البيت وإخفاءها عند أقارب غير مشتبه بهم. كان عندي رعب من مداهمة البيت. اليوم أمتلك مئات الآلاف من الكلمات. آه لقد تمسّكتُ بالسعادة. وعندما كنتُ على الطرقات مسافرة، عندما ابتدأ زمن تلك الكلمات، ونيّتي في أن أصنع «كولاجات» منها، فكّرتُ أغلب الوقت أنّ الكلمات تنتظرني. أن تكون ملقاة هنا وهناك بشكل مكشوف يُعطيني انطباعاً بالخصوصيّة، بالحميميّة، وكذلك بالحريّة الشخصيّة، لأنّ حيازة الكلمات بوفرة هو خلاف ما كان في الزمن السابق، حين كانت الكلمات تحت الرقابة.


  • «الصدى الذي في الرأس» هو عنوان المقدمة التي كتبتها الكاتبة الألمانيّة هيرتا مولر لكتابها «في الحنين لمسقط الرأس توجد قاعة زرقاء» الصادر حديثاً عن دار «هانزه» البرلينيّة. وهو عبارة عن كولاجات قامت المؤلفة بتركيبها من صور وكلمات مقصوصة من جرائد ومجلات متنوعة.

*هيرتا مولر: كاتبة ألمانيّة، غنيّة عن التعريف، ولدت في رومانيا في 17 آب/ أغسطس 1953، وقد تعرّضت لرقابة شرسة من حكومة الديكتاتور الروماني تشاوشيسكو، التي حذفت أجزاء عديدة من مجموعتها القصصية الأولى «منخفضات» في عام 1982، قبل أن تصدر كاملة في ألمانيا في 1984. واضطرت للفرار إلى ألمانيا ووصلت برلين في عام 1987 بعد صدور قرار منعها من النشر والعمل في رومانيا. في ألمانيا كتبت مولر الكثير من الأعمال الشعريّة والروائيّة والقصصيّة التي فضحت من خلال عدد منها البطش الكارثيّ للمخابرات الرومانيّة، وترجمت أعمالها إلى الكثير من اللغات العالميّة، ومنها العربيّة. وحصلت مولر، التي تعيش حالياً في العاصمة برلين، على الكثير من الجوائز الأدبيّة، كان أهمها حصولها على جائزة نوبل للأدب في عام 2009. وهذا الكتاب الجديد هو عبارة عن كتاب كولاج كتبته مولر بالمقص واللاصق والكلمات والصور. وهو تجربة شعريّة وفلسفيّة وتجريبيّة في ذات الوقت.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة