يوسف عبود جويعد
بين المتخيل المصرح به، وبين الواقع المنسلخ من السرد التخييلي، نكون مع رواية (قصر الثعلب) للروائي أبراهيم سبتي، الذي يضعنا في فضاء متداخل بتراكيبه المتناوبة، إذ يصرح الروائي وبشكل معلن، أنه سوف يطوف بنا بعوالم سردية متخيلة، الأمر الذي يثير ويشحن ذهن المتلقي بتساؤل مهم مالجدوى في أن أتابع أحداث من صنع خيال الروائي، ولكن سرعان ما يزول هذا التساؤل بعد أن تتم الإجابة عليه في متن النص، فبالرغم من أن المتخيل كبير وواسع الا أن ما يتمخض منه من أحداث مستجزأة من واقع حياتنا في هذا البلد، هي أقوى وأشد وطأة وتأثيراً، وهكذا سوف نكتشف أن الواقع بتفاصيله المأساوية المؤلمة أغرب من الخيال ومهما حلق الروائي في خياله الخصب المتنامي سوف نجد هذا التحليق يطوف في بطون أزمنة وأمكنة مشحونة بالحروب وبظروف أصعب وأقسى من تلك التي وضعها لنا الروائي في عوالم متخيلة، ويدب الصراع عبر هذا التناوب الذي عمد الروائي في توظيفه داخل متن النص، في مقارنة غريبة من نوعها، يريد بها أن يثبت اولاً بأن صانع النص بإمكانه أن يزج المتلقي في نص سردي متخيل بحت، ومن أجل أن تكتمل أدوات السرد وعناصره عليه أن ينسحب منه لينقلنا الى وقائع حقيقية وصادقة توازي في سخونتها وتناميها ما هو متخيل:
( حلمت ذات ليلة خريفية، بعد حربين عاتيتين مروعتين وسنوات قحط بينهما أماتت الزرع والضرع، بأني سافرت الى امريكا لمقابلة ممثلي المحبوب الاسطورة الحية كلينت ايستوود بطل أفلام الكاوبوي الطيب. أركبوني طائرة بوينغ بيضاء خاصة متوسطة الحجم تفوح منها رائحة الاثرياء والنخب المترفة والملوك والاباطرة وتجار الحروب ومشاهير هوليود.) ص 11
ومن أجل أن تتم عملية تحريك المسار السردي، بين المحورين المتخيل والواقعي، وأن تكون تلك التحركات متوازية ومتساوية ومتوازنة، فقد جعلها الروائي متصلة ببعضها تارة، ومنفصلة منزوعة من عمق المتخيل المتأزم تارة اخرى، لأننا سوف نكتشف بأن بطل هذا النص والذي حلم بمقابلة الممثل الامريكي، ليس هو من كان معجب به ويرسل له رسائل الاعجاب، بل هو شقيقه الذي مات نتيجة انفجار سيارة مفخخة، وقد أحس الممثل الامريكي بذلك، وقد وجه له الاتهام وهو يجلس معه على مائدة الطعام، مما أثار مخاوفه، ونعته بالكذاب، لندخل متخيل المتخيل:
( ذعرت وارتعدت قلقاً وفكرت بالاعتراف وتقبل المصير، خمنت بأنني سأموت فزعاً ورهبة، وانهم سيقودونّني مترنحاً الى مقصلة اعدام أًعدت خصيصاً لمن ينتحل ويزّور ويماطل بالاعتراف ولم يقل الحقيقة.) ص27
وهكذا نجتاز الحبكة والتداخلات الفنية التي اتبعها الروائي، لندخل التأزم بمحاولة بطل هذا النص الهروب من خلال سيارة جمع النفايات، التي رمته في مكب النفايات الواسع، ثم يقل سيارة للنفايات اخرى، والوقت الذي استغرقته السيارة يُنتزع واقع الحياة في البلد، ونطوف في ارجاءه:
( بغداد العاصمة، كبيرة أكبر بعشر مرات او يزيد من مدينتي، لكنه أمر صاعق وغريب في هذا الوقت ان ارى الشوارع خالية أنه مشهد جديد عليّ. يبدو ان آثار ما حدث من حرب، اثّر على كل شيء.. الكهرباء مقطوعة والشارع مهجور الا من بضعة رجال يتحركون كآلات قديمة وشرطي يقف بعيداً. كم كان حزني بليغاً وانا اجيء الى هنا لوحدي.) ص 60
وكما أن حركة الأحداث بالمتخيل تسير وفق السياق الفني المطلوب، فأن الأحداث الواقعية التي تُنتزع من هذا العالم تأتي لوجود مساحة تسمح للذاكرة أن تعود لتستعرض هذا الواقع، لننتقل الى الحروب والى حالات متأزمة اخرى وجدها الروائي في مكانها المناسب، مثل عندما تتحرك سيارة نقل النفايات وهي تقله ولوقت طويل، وبعد نزوله من هذا المركبة في الميناء وصعوده بصفة غير شرعية في سفينة امريكاش الذاهبة الى الشرق واختفاءه في احد الكابينات التي تحوي اسلحة ذاهبة للشرق ، وذلك لكي لا يحدث فراغ في المبنى السردي، ولتبقى الاحداث ساخنة في كلتا الحالتين:
( في اللحظة التي ركبنا الشاحنة العسكرية متعبين من المشي الثقيل ومذعورين من ملاحقة الطائرات لنا، وقفت قرب احد الجنود، لم يتذكر اسمه لثلاث دقائق تقريباً عندما سألته ومازحته لتخفيف الصدمة عنه. اخرج ورقة سمراء متهالكة وقرأها في صمت وعيونه ترنو الى السماء التي تلبدت بدخان اسود قاتم وازيز الصواريخ يلسع آذاننا..) ص 83
وتزداد وتيرة الاحداث حدة، بعد أن يجلبوا الجنود الامريكان، أحد الاشخاص الذي ركب السفينة بطريقة غير شرعية واشبعوه ضرباً ولكما امام مرأى بطل هذا النص، الذي ينقذه، ويسحبه الى داخل الكابينة، لتأتي بعدها طائرة اباتشي تفتش عنهما، ويتدلى السلم من الطائرة ليتسلقاه، ويبقى بطل هذا النص معلقاً وهو يصرخ انقذوني لينهض بعد هذا كله من فراشه مذعوراً:
( لينتهي حلمي مع نجمي كلينت ايستوود وقصر الثعلب الذي صار بعيداً في تفكيري واقرب الى المحال. انظر الى ساعة الجدار لتؤشر الثامنة والنصف صباحاً بعد هذا النهوض المفزع، لن الحق بحصتي الاولى في المعهد.) ص 143
وبهذا نكون قد خضنا غمار تجربة جديدة، يعلن فيها المتخيل ليكون هو السائد، وان الواقع حالة تستقطع منه في رؤية فنية جديدة.