“شوارع الوجود” والاستغراق في الحب والتاريخ والسياسة

علوان السلمان

النص السردي..منظومة معرفية مكتنزة بجوانبها النفسية والعاطفية والثقافية والمجتمعية بكل تشكلاتها…

  وباستحضار النص السردي(شارع الوجود) الذي انتجت عوالمه الذاكراتية ذهنية ناضجة ونسجت عوالمها السردية اناملها المقترنة بأحمد شمس، واسهم المركز الثقافي للطباعة والنشر في نشرها وانتشارها/2017..كونها تشتغل على الجملة السردية تحبيكا وعلى الصورة السردية تشكيلا، بصفتها تركيب لغوي يلجأ اليه المنتج(السارد) لتصوير معنى فكري او عاطفي او معرفي متخيل، فضلا عن انه يزاوج ما بين الذاتي والموضوعي عبر واقعية الحدث، بلغة المجاز والاستعارة التي تحيل الى اجواء الرمز الذي هو(تعبير عميق الفكرة..مزدوج المعنى)..وهي تسقط رؤيتها الفنية والفكرية على الفضاء المكاني بشقيه المغلق والمفتوح بشخوصه واحداثه بصفته بؤرة ثقافية تسهم في تصعيد عوالم السرد وتشعبها.. ابتداء من العنوان النص الموازي pra texte  والايقونة الدالة، المكثظة بطاقة مكثفة من الايحاءات والمرتكزات الرؤيوية.. مع اختزال جملي وايجاز مضموني بقصدية واعية، وقد توسدت واسم المنتج لوحة شكلت رسالة بصرية وعلامة ايقونية تسعى الى تحريك عامل التواصل والانفعالات للرائي(المستهلك) ..الذي يبرز جمالية  المرئي، وهي تحكي الفكرة بلغة الشكل (الخطوط والالوان والظل والضوء والاتساق البصري..).. لتحقيق الادراك المعرفي باعمال العقل ومهاراته، وترتبط بالعنوان جدليا، والذي يقترن بالعنوانات الفرعية الداخلية التي هي مجموعة من العلامات اللسانية التي تظهر على قمة النص مشيرة لمحتواه الذي تكشف عنه مشهدية رقمية  تندرج تحت كل عنوان مستدعية المستهلك (المتلقي) للاسهام في  ترسيم العنونة الملائمة للمتن المشهدي.. فضلا عن الاهداء الذي شكل نصا موازيا مضافا حقق وظيفة دلالية منشطة للحركة التواصلية بين المنتج(السارد)والمستهلك(المتلقي)،(لا احد يستحق ان اورطه معي بكل هذا الخراب، لكنني سأورط نظارتي الطبية، هي التي رأت كل شيء، هي التي شهدت ضدي في الايام..)ص5..

(في بدايات القرن الماضي ومنتصفه كان يعرف بشارع التكية نسبة الى تكية بيت الجنابي عند مدخله المؤدي الى شارع بغداد المحاذي لمحلة السراي وقد تحولت التكية بعد زمن قصير الى دائرة اوقاف دينية ثم عيادة طبية شهيرة للأمراض النسائية يجاورها معمل لصناعة الثلج.. وبعد تأسيس الجمهورية وافتتاح دائرة المعارف في الجانب الآخر منه حيث ينتهي بمحلة(الجديدة) صار يعرف بشارع المعارف نسبة اليها وبعد ان تغيرت الدائرة الى مديرية التربية صار الناس يسمونه شارع التربية.. وربما سيتغير اسمه مستقبلا فعادة تغيير الاسماء هنا تنتشر مثل وباء كلما تتغير حكومة تقوم بطمس تاريخ سابقاتها وربما سيغيرون اسماء المواطنين ايضا لو وجدوا ذلك يسيرا.. التاريخ القبلي الراكد والانقلابات والثارات في دول بتاريخ كهذا هي التي تنتج انظمة قمعية.. متشددة.. وهي التي تخلق تلك العقدة.. هذا الشارع ليس سوقا فحسب.. انه مكان تجتمع فيه كل تناقضات المدينة وتحولاتها الثقافية والاجتماعية.. يختصر تاريخها قبل ان يتخذ الناس له اسما فهو مركز المدينة التاريخي والتجاري في آن واحد..) ص7 ـ ص8

 فالنص ينفتح على العوالم التجريبية باتكائه على الاجناس الادبية(شعرية ودرامية وحوارية وتشكيلة فنية..) فتعددت الاصوات بكل انثيالاتها وتجلياتها النفسية والفكرية، فالذات المنتجة هي بؤرة السرد التي تستدعي المكان ومؤثثاته وتعيش اللحظات المعرفية ببناء فني يوظف تقنيات فنية واسلوبية كالتبئير الداخلي باستعمال ضمير المتكلم(انا) المقحم لذاته في الاحداث والسيرة المكانية وتحولاتها، فضلا عن انه يكشف عن دواخل الشخصية بتتابع فعالياتها الذاتية فيخلق حوارا منسجما والتكوين السايكولوجي لها بألفاظ موحية بعيدة عن الضبابية، مستفزة للذات الجمعي الآخر، اضافة الى تأكيده على المكان بصفته وعاء فكري للذاكرة تدور فيه الاحداث وتتحرك في امتداداته الشخوص الكاشفة عن المتغيرات الذاتية والموضوعية، فضلا عن توظيف تقنية التداعي والاستذكار الخالقة لنص يجمع ما بين الحكائية ذات الاصوات المتعددة من خلال تصوير الاماكن وموجوداتها واستدعاء الحدث والميلودراما الساكنة..

(اعلنت الشرطة في اليوم التالي انها فككت شبكة ارهابية والقت القبض على ثلاثة عناصر منها.. عثرت على وثائق وادلة بحوزتها وقد احيل الملف الى جهة استخبارية متخصصة اكدت ان من ضمن الوثائق التي ضبطت لدى الارهابيين مخطوطة مذكرات تعود لرجل اكاديمي معروف.. كلفت هذه الجهة فريقا من الضباط الدمج لإدارة عمليات التحقيق ومتابعة خيوط هذه الشبكة.. وعين العقيد هادي امينا على الوثائق وكلف بتحليل مضمونها.. وهو الوحيد بينهم خريج كلية عسكرية.. أخذ معه كافة الوثائق الى منزله محاطا بموكب حماية مشددة اوصله الى المنزل وعاد ادراجه.. كان يهم باستبعاد مخطوطة المذكرات من التحقيق فلم يجد فيها اكثر من سيرة حياة رجل بسيط وتافه يركض وراء النساء ويحتسي الشراب بمختلف انواعه ويتفلسف حد الملل.. وقد صادف ان اصبح عالما في مجال لا سلطة فيه ولا ثراء ولا يجلب سوى (طيحان الحظ) وهذا كل ما في الامر.. مخطوطة تافهة لا تنفع في التحقيق بشيء لا خيوط فيها ولا بطيخ..)ص18 ـ ص19…

 فالفضاء النصي يعتمد لغة واسلوبا وبناء فنيا فرش روحه على امتداد الجسد السردي بجمل مكثفة اسهمت في تحقيق المشهدية السردية السيمية، ومفردات موحية رامزة تحيل الى احداث واقعية احاطتها مخيلة المنتج بدرامية تحفز خيال المستهلك(المتلقي) وتستدعيه لاستنطاقها، فضلا عن ان الراوي العليم يسرد على لسان الراوي السارد للأحداث مشاركا بها من خلال التحرك ما بين الشخوص والتنقل بالزمان والمكان بتوظيف تقانتي الاستباق والاسترجاع المتبادلتان باستخدام لفظة(سالفتنه)و(نرجع لسالفتنا)..(سالفتنا، عثر على مذكرات الدكتور سامي خلخال لدى مداهمة منزل صديقته المومس الشابة التي نزل عندها آخر مرة ظهر فيها…)ص18..اضافة الى السخرية النصية من الانظمة والقوانين التي تنظر بدونية الى الانسان باعتماد المشهد الذي يسهم في ابطاء السرد والكشف عن الابعاد النفسية والاجتماعية للشخصية ،مع اشارات قولية شكلت نصوصا موازية داخل المتن استلت من متداول القول والامثال، نرجع لسالفتنا، من الطبيعي جدا ان يتعاطف حتى الشيطان مع صاحب هذه المذكرات..) /ص24..فضلا عن توظيف تقنية الحوار بشقيه: الذاتي(المنولوجي)والموضوعي(الديالوجي) مع تركيز المنتج(السارد) على تقنية الميتاسرد لتعضيد النص وتقويته فنيا وفكريا وجماليا واسلوبيا..

( بدأت اعمل على اصلاح المذكرات فور وصولها الى منفاي الاول.. فمن الواضح انها كانت مخبأة في مكان مهمل او مدفونة في حديقة.. فلا تكاد تخلو ورقة منها من شق او تجعد او انكماش وعليها آثار سوائل وصدأ وتراب.. كانت المهمة صعبة للغاية لكني اتممتها على احسن وجه وفي وقت قياسي لم يتعد عشرة ايام على الاكثر، تمكنت من قراءتها بفضل خبرتي بخطه الذي حفظته من خلال رسائله التي كانت تصلني قبل الحادثة اسبوعيا او شهريا وبتوقيعه ومؤمنة بشفرات لا يفهمها غيرنا.. ثم رحت ادون قصة هذا الرجل بعد ان حذفت منها فصولا، بعضها يضر بآخرين وبعضها الآخر لا اهمية له في هذه الحكاية على ما اعتقد، لكنني حرصت على الامانة في نقل ما نقلت منها.. ولأنني حين كتبت اغلب فصولها كنت تحت الاقامة الجبرية مسجونا في غرفة وحيدة متعددة الاستعمال..) /ص24ـ ص25..

  فالنص يجمع ما بين السخرية والمفارقة والمحاكاة، وهو يكشف عن التماس والبعد الاوتو بيوغرافي(السير الذاتي)..اضافة الى احتلال الموروث الشعبي حيزا من الثقافة الشعبية ،بتركيزه على شواهد حدثية  متجذرة..(شوف هذا شكد اثول) /ص136.. و(اريد دم هذا العلاس) /ص110و(الك الله يلفقير)/ص18…اضافة الى الحوار…

ـ ها ماما شتريد

ـ العفو ست آني مقبول هنا وريد اباشر

ـ اي دروح..اخذ محاضراتك يا ابني وهاي هي

ـ العفو ست بس آني ما اندل

ـ استغفر الله..صرخت بتشنج..يا ابني قابل هي باريس وما تندل؟ شسمك؟

ـ اسمي..سامي خلخال موذح

ـ اطلقت ضحكة لم تقاوم حبسها:ماما اسمك كلش حلو..قالت باستهزاء.. هذا مو قسم الاجتماع..ثم ارشدتني الى القاعة رقم 2… / ص98

  وبذلك قدم المنتج(السارد) نصا ابعاده غارقة في الحب والسياسة والتاريخ، تميز بتماسكه البنائي وقيام نسجه على تقنيات فنية اسهمت في تطوير النمو النصي اضافة الى اتسامه بالوعي الذي ينم عن تجربة انسانية تقوم على المشهدية والحركة والصورة المركبة الجامعة ما بين الحسي والنفسي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة