إخوان الصفا

محمد زكي ابراهيـم

لا أعلم على وجه اليقين كيف كان أهل العلم في البصرة يتذاكرون في القرن الرابع الهجري، وأين كانوا يتطارحون الشعر، يتبادلون الرأي، يتداولون الحكمة. وقد أقفلت الأسواق الشهيرة مثل المربد أبوابها منذ زمن غير يسير. ولم تكن هناك مقاهٍ عامة يتداولون فيها الأخبار، ويجتمعون عندها لشرب القهوة، أو احتساء الشاي، أو تدخين المعسل، لأنها جميعاً لم تكن قد عرفت بعد.

ولم أسمع أن هناك منتديات ثقافية، أو مكتبات عامة، أو مجالس خاصة، كالتي شاعت في زمننا هذا، إلا أن تكون دواوين الحكام، أو الوزراء، أو الولاة. فقد كان هؤلاء حريصون على إيواء الشعراء، وأهل النحو، ورجال الحديث. لأنهم أفضل وسيلة إعلام في ذلك الوقت. وقد عرفهم الناس ومالوا إليهم، لكثرة ما تردد من أسمائهم على الألسنة، وما تواتر من أخبارهم في الكتب.

ومع ذلك فإن ظهور جماعة إخوان الصفا وخلان الوفا في هذه المدينة، وهو حدث مبهر، لم يكن ظاهرة استثنائية. فقد سبقهم إلى ذلك المعتزلة والمتكلمون. ولست آمن بالقول أن هؤلاء كانوا يجتمعون في مسجدها الكبير، وأن أصواتهم كانت تتعالى فيه. فالخلافات التي استعرت بينهم حول مسائل اعتقادية جعلت مثل هذا الملتقى غاية في الحرج. وربما كان البعض منهم يذهب إليه لتزجية بعض الوقت، لا غير.

لقد كان إخوان الصفا من أهل المنطق والفلسفة والعلوم التي لا تروق للعموم. وكانوا يرمون بالانتماء للإسماعيلية، ويوصمون بالباطنية، ويتهمون بالميل للمتصوفة. وقد درسوا علوم فارس واليونان، وتأثروا بمقالات الأفلاطونية المحدثة. ومثل هذه الأمور جعلتهم عرضة للتكفير، والرمي بالزندقة. وكان هناك من يرى أن الحركة الإسماعيلية في البصرة قد تأثرت بهم وليس العكس.

إن رسائلهم الاثنتين والخمسين تنقسم إلى أربعة أجزاء هي الرياضيات والمنطق، والعلوم الطبيعية والنفسية، وما وراء الطبيعة والإلهيات، والتصوف وعلم النحو والسحر. أي أنها غطت جميع فروع العلم الشائعة في ذلك العصر. إلا أن ما يجمع بينها أنها انحازت إلى رأي أرسطو في المعقولات والمدركات، فذهبت إلى أن الحس هو أساس المعرفة، وما لا تدركه الحواس لا تقبله العقول. وقالت أن المعقولات موجودة داخل النفس، يستنبطها العقل من صور المحسوسات. وليس كما زعم أفلاطون أنها تأتي من الذاكرة. فالإنسان يولد وهو لا يعرف شيئاً، وما يدركه يأتي عن طريق الحس لا الخيال.

كيف يمكن أن تجتمع في عصرنا هذا جماعة إخوان صفا أخرى، تبحث في أمور السياسة والدين والمادة، والاقتصاد والثقافة، وأشياء أخرى كثيرة ظهرت في عصرنا هذا، ولديهم وسائل اتصال واجتماع وتقارب، لم تكن موجودة من قبل؟ هل يمكن أن تتكرر التجربة في البصرة أو بغداد أو سواها من مدن العراق الحديث، أو أن تلك إرهاصات مجتمع وضع أقدامه للتو في سلم الحضارة، وهو الآن يعيش على أمجاده الغابرة، التي أخذت تتآكل بمرور السنين؟ 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة