مسارات متباينة:هل يضع الاتفاق مع «طالبان» حداً لأطول حرب خارجية أميركية؟

لم يكد يمر أقل من أسبوع على توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان» الأفغانية في 29 فبراير الفائت، والذي اعتبر نقلة تاريخية في مسار العلاقة على الجانبين فيما يعرف بأطول حرب في التاريخ الأمريكي (أكثر من 18 عاماً)، حتى شنت القوات الأمريكية في أفغانستان ضربة جوية في 4 مارس الجاري، وصفها الكولونيل سوني ليغيت المتحدث باسمها بـ «الضربة الدفاعية»، لاسيما أنها استهدفت عناصر كانت تستعد للهجوم على نقطة تفتيش لقوات الأمن الوطني الحكومية، مشيراً إلى أن «واشنطن ملتزمة بالسلام». ولا يكشف هذا الحادث الأول بعد توقيع الاتفاق عن التحديات التي تواجهه فحسب، وإنما أيضاً عن نظرة الأطراف المختلفة للاتفاق وتداعياته.
إذ تتعلق إحدى النقاط الجوهرية في الاتفاق «التكتيكي» بإطلاق حوار بين الحكومة الأفغانية، التي لم تشارك فيه، وبين «طالبان» في غضون أقل من أسبوعين، وهو أمر محفوف بالشكوك من الناحية العملية وفق توقعات مراقبين محليين استطلعت وسائل الإعلام الأمريكية آرائهم، وذلك بالنظر لموقف كل منهما من مشروطيات اللقاء، والتي يتقدمها الإفراج عن 5 آلاف أسير، إضافة لركن سياسي قد لا يكون أدرج مباشرة في الاتفاق لكنه واضح في العديد من تلك البنود، وهو الاعتراف المتبادل بين الخصمين اللدودين (الحكومة و»طالبان»)، لاسيما وأن واشنطن، التي تدعم الحكومة، أصبحت، على الجانب الآخر، مطالبة باحتواء «طالبان».
رهانات الأطراف: سعت الأطراف المعنية بالاتفاق إلى تحقيق أهداف عديدة منه. فبالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإنها ستحرص على توظيف الحدث دعائياً في حملتها الانتخابية من عدة أوجه في المقدمة منها الوفاء بوعده بإنهاء «الحروب التي لا نهاية لها» على حد قوله.
كما ستستفيد الولايات المتحدة من موقف «طالبان» تجاه تنظيمى «القاعدة» و»داعش»، وفقاً لما يتضمنه الاتفاق أيضاً. لكن من المتصور أن ذلك سيكون رهن مسار العلاقة على الجانبين، إذ سيحتاج الأمر إلى التنسيق المشترك في مواجهة «داعش»، وهو مسار لا يشكل أزمة بالنسبة لهما، لكن المسألة قد تختلف فيما يتعلق بـ»القاعدة»، فحسب العديد من التقديرات، فإن قطاعاً من المنضوين تحت مظلة «طالبان»، لاسيما شبكة «حقاني»، قد لا يكون لديه التوجه ذاته، كما أن نقاط التنسيق بين «القاعدة» و»طالبان» في العديد من المواقع إضافة إلى العلاقة التاريخية بين قياداتهما قد تحبط هذا المسار في العلاقة بين الجانبين.
وهناك منظور استراتيجي آخر للتوجهات الأمريكية رصدته العديد من التقارير الإعلامية، يتعلق بدور وزارة الدفاع (البنتاجون) في «الصفقة»، حيث تسعى إلى إنهاء ما يسمى بـ»ورطة أفغانستان» لصالح التفرغ لمنافسين آخرين أكثر أولوية في المرحلة الحالية، على غرار الصين وروسيا.
أما بالنسبة لـ»طالبان»، فإن أغلب الرؤى في كابول وواشنطن، تشير إلى أنها قد تكون الفائز الأكبر من الاتفاق، حيث حصلت في المقابل على «اعتراف» أمريكي بشرعيتها كشريك في أفغانستان وترتيبات المستقبل السياسي، وإن كان ذلك سيظل رهناً بمسار العلاقة بعد الاتفاق، فتحليل الخطاب على الجانبين لا يعكس تقارباً كبيراً قدر ما يشير إلى سعيهما لإبرام «صفقة» تحقق مصالحهما.
ففي كلمته فور التوقيع على الاتفاق، أشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى أنه «يمهد الطريق للسلام»، وهو ما أيده سهيل شاهين المتحدث باسم «طالبان» في لقاء إعلامي فور توقيعه، حيث أكد في الوقت نفسه على أنه «لا يمكن احتلال البلاد إلى الأبد»، لكنه رهن الموقف بـ»اختبار العلاقة في المستقبل على الجانبين».
كذلك ستستفيد «طالبان» من الإفراج عن 5 آلاف من عناصرها في السجون الحكومية، وهو الأمر الذي تحاول الحكومة مقاومته، لاسيما وأن الأولى تشترط أن تتم تلك العملية قبل إطلاق الحوار المرتقب وفق الاتفاق في غضون أسبوعين من التوقيع. لذا تسعى واشنطن إلى تجاوز تلك العقبة، حيث خاض وزير الدفاع الأمريكي مارك اسبر مناقشات مع الرئيس الأفغاني أشرف غني حول هذا الملف، وهو سياق يكشف، من جانب آخر، أن خطوات بناء الثقة المحلية التي تسعى لها واشنطن وفق الاتفاق لا تزال بعيدة.
تحديات الاتفاق: تبدو التحديات فيما يتعلق بالعلاقة بين واشنطن و»طالبان» أقل إذ ما قورنت بالتحديات الخاصة بالعلاقات بين الفاعلين المحليين، وذلك بالنظر إلى أن تحركات واشنطن تشير إلى أن لديها خطة بالفعل للانسحاب وفق الجدولة المتفق عليها في المرحلة الأولى على الأقل، وهو ما يتوازى مع تأكيد «طالبان» على أن أفغانستان لن تستغل ضد الولايات المتحدة أو حلفائها.
لكن فيما يتعلق بالترتيبات بين «طالبان» والحكومة، قد يكون من الصعب الرهان على الوصول إلى توافق. فالأولى تتجنب توجيه إشارات ما لإبداء المرونة تجاه الأخيرة التي تواصل التشكيك في آليات وصولها إلى السلطة، فضلاً عن أنها لا تزال تقوم بعمليات هجومية ضد قواتها حتى بعد توقيع الاتفاق وهو ما يقود لتحدٍ آخر مفاده أن «طالبان» ستميز في العلاقة بين واشنطن وكابول، وبالتالي قد تسعى لتنفيذ «نصف الاتفاق» فقط، وهو ما حاولت أن تؤكد عليه من خلال عملية 4 مارس الحالي التي يقول الجيش الأمريكي أنه أحبطها.
وقد لا يتوقف الأمر على «طالبان»، فلا شك أن الحكومة تبادلها الخصومة نفسها، لذلك طرح العديد من المراقبين علامات استفهام حول خطوة إجراء الانتخابات قبيل توقيع الاتفاق، والتي كانت نتائجها معروفة مسبقاً، وتمحورت رؤاهم حول سيناريوهين: أولهما، أن الرئيس غني نفسه، وعلى عكس ما يظهر، قد يكون الخيار الأفضل للمضي إلى الاتفاق الذي تسعى إليه واشنطن. وثانيهما، أن واشنطن تسعى إلى توجيه رسالة إلى «طالبان» بأن المسار السياسي المعتمد حالياً لا تحبذ تغييره، وذلك رداً على تلميح الأخيرة بالقبول بعملية سياسية «وفقاً لآليات ديمقراطية» لكن بشرط أن «يكون ذلك رهن الشريعة الإسلامية».
فضلاً عن ذلك، فإن هناك أطرافاً أخرى تتبنى سياسة مختلفة إزاء الاتفاق، وربما تحاول عرقلة تنفيذه، منها على سبيل المثال، إيران، التي اعترضت، بشكل رسمي، على توقيعه، واعتبرت أن «الولايات المتحدة ليس لها وضع قانوني يتيح لها توقيع اتفاق مع طالبان في أفغانستان».
في المحصلة الأخيرة، من المتصور أن الولايات المتحدة بصدد وضع حد للحرب المفتوحة على مدار العقدين السابقين في أفغانستان، كما أن لديها أولويات أخرى بالإضافة إلى الأهداف اللوجستية الخاصة بالرسائل السياسية للاتفاق. لكن في المقابل سيتعين عليها أن تواجه تحديات العلاقة مع «طالبان»، إذ أن الإدارة الأمريكية التي طالما انتقدت الرئيس السابق باراك أوباما في سياق ما يتعلق برؤيته القائمة على أن «إقحام المتشددين في العملية السياسية قد يحولهم إلى معتدلين يمكن القبول بهم»، باتت تتبنى المقاربة نفسها بطريقة غير مباشرة في بعض الملفات. وفي المقابل، ليس لدى «طالبان» ما تخسره، بل على العكس لديها ما ستجنيه من الاتفاق، بينما تقف الحكومة على الجانب الآخر، حيث تخشى من أن تكون هي الطرف الذي سيسدد ثمن الاتفاق فعلياً، وبالتالي من المتصور أن الاتفاق سيمضي، وفق أفضل السيناريوهات، فيما يرتبط بالترتيبات التي تخص القوات الأمريكية والعلاقة بين «طالبان» وواشنطن، لكنه، على العكس من ذلك، قد يواجه عقبات عديدة فيما يتصل بالعلاقة بين «طالبان» والحكومة.

  • مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة