خصخصة بلا فواتير

عندما تلقف “اولي امر” وزارة الكهرباء مقترح خصخصة الجباية والتوزيع فيها، سارعوا الى تنفيذه بسرعة غير مألوفة وصادمة للتقاليد المتعارف عليها (المماطلة والاعاقة والتسويف و…). في البدء توهم البعض منا ان ذلك سيشكل انعطافة في عمل هذه الوزارة الشرهة، والتي استهلكت موازنات اسطورية عجزت جميعها عن توفير هذه الحاجة الاساسية (الكهرباء) لكل مناحي الحياة الحديثة والتي وصلت محطاتها واعمدتها الى قبائل الادغال النائية في افريقيا، لا سيما وانها ترافقت وحملة ترويج واسعة لبرنامجها بتوفير الكهرباء من دون انقطاع، مما دفعنا جميعاً لقطع اشتراكنا مع اصحاب مولدات الكهرباء (السحب) في المناطق التي شملت بذلك البرنامج (الطموح)، حيث تم استبدال العدادات باخرى جديدة وتحت اشراف المراقبين الجدد. ولم يمر وقت طويل على تمتعنا بنعمة التزود بهذه الطاقة على مدار الـ 24 ساعة؛ حتى طالتنا عين الحسد وما يتجحفل معها من دسائس وقوى خفية، لتبداً بالترنح والتعثر أكثر فأكثر مع اقترابنا من موسم الحر، لنجد انفسنا نهرول زرافات ووحدانا الى اصحاب المولدات وبشكل مذل حيث فرضوا على الجميع دفع اجور شهر اضافي، كعقوبة منهم على ما اقترفت اوهامنا مع بدعة الكهرباء (الوطنية-المخصخصة).
بعد ذلك الرجوع الذليل لأصحاب المولدات وشبكاتهم الاخطبوطية، دخلنا مع تجربة (خصخصة الجباية) هذه الى طور جديد، حيث امتنعت مكاتبهم ومنذ عدة أشهر؛ عن اصدار قوائم اجور الكهرباء لتتحول الى ما يمكن أن نطلق عليه بـ (خصخصة بلا فواتير). اما ما الذي سيحصل بعد ذلك، فان الامر كما يبدو لن يشذ عما سبقه من شطحات ودقلات، أي سيبقى رهن مشيئة المحافل والورش التي ابتكرت لنا بدعة (خصخصة الجباية والتوزيع) والتي لن تبخل علينا بكل ماهو عجيب وغريب في مجال انتاج الطاقة وتوزيعها وسبل جبايتها. قد تبدو هذه القضية للبعض مجرد محاولة من قبل الدولة والقطاع الخاص لحلحلة مشكلة مستعصية، وهي كأي تجربة في حقل صعب يمكن ان تنجح أو تخفق، لكن عندما نجد مثل هذا السلوك والمنحى يتكرر مع مختلف المؤسسات والهيئات والادارات الحكومية، سيختلف الامر تماماً، لنجد أنفسنا امام منهج مدجج بكل شروط الخيبة والفشل، وفاقد لكل ما يمت بصلة للمسؤولية والحرص وروح الايثار.
ان اخفاقاتنا في هذا المجال الحيوي (الطاقة) لا تنفصل عما يحصل لنا في باقي الميادين، والاخفاق الاعظم الذي يمدها جميعاً بالبقاء والتمدد على تضاريسنا المستباحة؛ يكمن في مرور كل هذا الكم الهائل من تجارب الفشل والفساد، من دون ان يتعرض اي منها للبحث والتنقيب عن العلل والاسباب التي ادت لحصول ذلك والجهات المسؤولة عن ذلك الفشل والاخفاق، او كما يقول المثل المعروف (الجيوش المهزومة تجيد التعلم). لذلك ستلتحق هذه التجربة والتي أثارت ضدها سيل من الاحتجاجات والتظاهرات عند انطلاقها؛ بذلك الارشيف الضخم من مقابر النسيان من دون أن يتسنى لنا التعرف على العقول والمصالح والقوى التي اوجدتها. هذا الهدر والاستنزاف في الطاقة والموارد والثروات والفرص، يحتاج منا لأكثر من مواقف وقرارات وتشكيل المزيد من اللجان وغير ذلك مما عودتنا عليه هذه الطبقة السياسية. نحتاج الى ارادة سياسية ومجتمعية تدرك معنى الكهربة لدول ومجتمعات وصلت لسن التكليف الحضاري..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة