تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.
الحلقة 12
أسباب داخلية وخارجية تظافرت وأدت الى انتكاسة الثورة
لقاء مع البارزاني
كان البارزاني من أهم وأبرز قادة التحرر القومي الكردي في القرن العشرين. ففـي عهده بلغت الحركة والثورة الكردية مرحلة لم تبلغها في العهود السابقة. كان البارزاني الخالد رجلاً مهيباً وصاحب شخصية قوية، كنت تقرأ في وجهه أعواماً طويلة من النضال والتعب. في تلك الليلة ذهبت للقائه وجلست معه ساعات عدة بحضور معظم أعضاء اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني.
بدا في وجهه وملامحة وصوته وناظريه الألم والحسرة. برغم انه أراد كبت شعوره العميق بتلك الأزمة والكارثة الكبيرة برباطة جأشه وشخصيته القوية، لكن شخصاً مثلي التقاه عدة مرات وخبره عن كثب في السراء والضراء، كان يحس بما يمور في قلبه المفعم بالألم العميق والحسرة السحيقة في أعماقه.
نظر إلي وطلب مني إبداء رأيي الشخصي حول الأحداث. نقلت بدوري رأي الحزب الذي يفيد أن اتفاقية الجزائر لا تثير عجباً كثيراً لدينا، بل يكمن العجب في موقفكم (الكلام موجه إلى البارزاني) أنتم صاحب تاريخ الجرأة والكفاح وتخليكم عن تواصل الثورة وانسحابكم إلى إيران، إلى حيث يتسلط المتآمر!
فقال البارزاني: صدقت، حقاً إنها لمؤامرة كبيرة، ندرس المسألة ونقلبها علـى وجوهها، فنصل إلى نتيجة تؤكد عدم تمكننا الأن من مقاومة حملات الجيش العراقـي ومعاداة الحكومة الإيرانية في آن واحد. سندفع ثمن ذلك غالياً. إزاء هذا الظرف المستجد لا أرى طائلاً ومنفعة في التضحية بأرواح أبناء الكرد أكثر من هذا. أمامنا فرص وأوقات كثيرة، فإذا ناصبتنا الحكومة الإيرانية العداء، سيتخذ وضع الكرد أبعاداً خطيرة، يستحيل توفير الأسلحة والأعتدة والمواد الغذائية، بالتأكيد تصعب إدارة جبهات القتال هذه.
تحدثت بالتفصيل عن مخاطر التخلي عن الكفاح الثوري المسلح واللجوء إلى إيران، وطرحت تصوري للوضع القادم بشكل آخر. كنا مؤمنين بإعادة النظر في الثورة مجدداً وتحوير مضامينها على أسس أكثر ثورية والتعويل على نحو أكثر على الجماهير المضطهدة والكادحة في كردستان، وتحويلها بداية من المواجهة الجبهوية المباشرة إلى حرب العصابات، حينئذ تخف حدة الحصار الخطير المفروض علـى الثورة الكردية من قبل الإمبريالية وأذناب النظام العراقي. وتزامن عامل مساعد مع هذا التوجه، خاصة حين نظمت قبل شهرين تظاهرات عامة صاخبة وناجمة ضد حكومة الشاه في جامعة طهران، إضافة إلى ذلك كانت الحركة المعادية للشاه وحكمه تتطور وتتصاعد باستمرار. ورأينا أن إخماد لهيب هذه الثورة سيؤثر سلباً على الشعب الكردي، وستشمل سياسة التعريب والتبعيث كافة مناطق كردستان.
اشترك الأخ رشيد سندي، أحد أبرز قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والبيشمركة، في النقاش وعدَّ آرائي نوعاً من التشاؤم، ولتأكيد رأيه المخالف لطروحاتي، عرض رحلة مصطفى البارزاني وقت انهيار جمهورية مهاباد الكردية في إيران، وانسحابه عبر ثلاث دول إلى الاتحاد السوفيتي، ثم عودته إلى العراق وإعلانه الثورة مجدداً. في معرض الجواب قلت له إن الـزمن والمكان يختلفان، لزام علينا ألا نفوت الفرصة المتاحة اليوم بآمال مستقبلية.
وبعد مشاركة بعض الأشخاص في الحوار، منهم السادة، صالح اليوسفي و سامي عبد الرحمن و الدكتور محمود عثمان، طرحت باسم حزبنا هذا البرنامج:
1 – إعلان الثورة الدائمة.
2 – شجب وإدانة موقف الثالوث الإيراني والأميركي والجزائري.
3 – تأسيس جبهة وطنية في كردستان.
4 – انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جبهة (التجمع الـوطني العراقي) التي تجمعت فيها سبعة أحزاب عراقية وكانت القيادة المركزية طرفاً رئيساً فيها.
5 – الاستيلاء على الأسلحة والمتفجرات المتبقية وإخفائها وتوزيعها علـى المناطق التي تصبح مراكز رئيسية في مستقبل الثورة.
6 – الإسراع إلى إعادة تأسيس تشكيلات قوى البيشمركة على نحو ملائم مع حرب العصابات، على أن تشترك في إدارة الأعمال كلها، كافـة الأحزاب والفرق في الجبهة الموحدة القادمة.
وبعد تبادل بسيط للآراء وبعض المناقشات، طلبت من البارزاني أن يضمن لنا مستلزمات البقاء والتواصل في حال بقائنا واستمرارنا.
واستفسر البارزاني عن تلك المستلزمات، فحددتها ببعض المبالغ وكمية من الأسلحة. فالتفت إلى الشهيدين صالح يوسفي وسامي عبد الرحمن طالباً منهما إبـداء الرأي، وأيد كلاهما مطالبنا. حين أتينا على تحديد الكم، اقـترح المرحوم إدريس البارزاني أن يناقش هذا الموضوع على إنفراد بيني وبينه، وألا يشترك فيه جميع المجتمعين وسنتفق على التفاصيل.
بخصوص المال والمساعدة المالية، بين إدريس البارزاني مثلما طرحه والده، أن وضعهم المالي سيئ للغاية إلى حد لم توزع (المساعدات) منذ شهور عدة على البيشمركة. وفي النتيجة أحالوا الموضوع إلى الأخ محمد عزيز، الذى أعطى ممثلنا رسالة للأخ إدريس كتب فيها تخصيص وصرف مبلغ (600) دينار لنا، فأرسل محمد عزيز كتاباً إلى الأمانة المالية، وحين وصلنا المبلغ رأيناه قد صار ألف دينار بدلاً من 600 دينار، ولم ندر أيهما زاد المبلغ الأخ محمد عزيز أم الأخ علي عبـدالله الأمين العام للمالية؟.
أما بخصوص الأسلحة فلم نُمنح أي شيء، اتفق الأخ أدريس البارزاني مع أحد مسؤوليهم على أن نلتقي معاً في موقع خلف قلعة دزه ونتسلم منهم كمية من أنواع الأسلحة المختلفة، وكان من المزمع أثناء انسحاب قواتنا من منطقة بالك إلى شاربازير تسلمها في المكان والموعد المحددين، لكن قبل وصول قواتنا اعترضت طغمة مسلحة طريقها وحدثت اشتباكات بين الطرفين، جرح منهم شخص وألقي القبض على اثنين منهم كأسرى. بعد سنين انكشف لنا اسم المسؤول الذي أمره إدريس البارزاني بمنحنا الأسلحة وقد انتظر في المكان المحدد قواتنا لكن الاشتباك المسلح مع تلك الطغمة التي اعترضت طريقها أخرت قواتنا وأجبرتها على تغيير المسار فحال ذلك دون وصولنا في الموعد المحدد، فانسحب المسؤول مع قوته إلى إيران بعد أن ملَّ الانتظار، وكان ذلك المسؤول المكلف من قبل إدريس البـارزاني هو العريف درويش.
عقب اللقاء مع البارزاني وقادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، انطفأ بصيص أمل المقاومة وإدامة الثورة. بعد ذلك اللقاء الأخير مع البارزاني في حياتي، التقيت في أحدى غرف مضيف البارزاني في حاجي عمران الكاتب الشهير جرجيس فتح الله. كان الوقت فجراً وقد ملت عينه الكرى كان يتأوه ويغمغم، تجاذبنا أطراف الحديث وقال لي في خاتمة النقاش (أنتم قاوموا.. وأنا في الخارج أكتب عنكم). وبرغم الجو الذي سادته الخيبة، بدأنا باتصالات سريعة مع الجهات والمسؤولين والأشخاص الذين اتفقوا معنا على تواصل الثورة لا التخلي عنها.
كانت نكسة الحركة هائلة بحيث كنا نسمع ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم أنباء جديدة تزرع التردد بين صفوف من وعدوا بحمل راية الثورة الجديدة.
بعد اللقاء بين القيادة المركزية و العصبة الماركسية- اللينينية، ومع الشهيد طاهر علي والي بيك، الذي التقيته في مضيق رايات، اتفقنا على أن نتلاقى في منطقة بنجوين ونبدأ من هناك بالتخطيط للمقاومة وإدامة الحركة المسلحة. كان الشهيد طاهر نائب آمر قوة (خبات)، وقبل ذلك تولى مهام أمر القوة، كان مقره في بنجوين، وأتفقنا أن نتخذ من منطقة شاربازير مركزاً للقوى والفعاليات في البداية.
كان لنا أي (للقيادة المركزية) في تلك المنطقة مقر وقاعدة عسكرية للبيشمركة المقاتلين. ورأينا أن قربنا من السليمانية التي تعد مركز قوة و نشاط العصبة الماركسية – اللينينية والقيادة المركزية سيغدو عامل قوة وقاعدة ثورية في المنطقة.
نحن في القيادة المركزية رحنا ننقل ما استطعنا نقله إلى منطقة السليمانية، وخبأنا تحت الأرض ما عجزنا عن نقله بسبب عدم تمكننا من شراء بغال لهذا الغرض، علـى أمل استخراجها واستعمالها في المستقبل.
وحسب اتفاق مضيق رايات، وصلنا منطقة بنجوين، ولم نلتق منهم غير الأخ طاهر علي والي، أما الآخرون فكانوا قد عادوا إلى مدينة السليمانية.
في المساء الذي وصلنا فيه قضاء بنجوين، كانت معارض ودكاكين الثورة تنهب وتسلب ويتعالى أزيز البنادق وكان البيشمركة المقاتلون يرمون أسلحتهم ويتجهون جماعات وفرادى إلى إيران أو يعودون إلى العراق. استقبلنا الشهيد طاهر بترحاب شديد وأبلغنا بعودة الجميع إلى العراق باستثنائه. وبعد المناقشة والحوار وجدناه هو الآخر مقتنع بغياب أمل المقاومة، وان على الحركة الثورية أن تهيئ نفسها لفرصة مواتية قادمة، وأضاف إنني سأعدم حال عودتي إلى العراق، فاضطر للتوجه صوب إيران وقال أرى أن بقاءكم وحدكم لا يجدي نفعاً ويخلو من إمكانية الصمود والكفاح المسلح، ومن الأفضل أن تعودوا إلى العراق وألا تقدموا على تقديم تضحيات لا تجدي ولا تنفع في هذا الظرف. اجتاحنا حزن شديد لما حل بكل جهودنا المبذولة لمقاومة هجمات الأعداء.
في الصباح الباكر تقدمنا نحو منطقة كوركازاو (كوره كاژاو)، ودعنا الأخ طاهر علي والي وفصائل من البيشمركة حتى حدود قرية (راوكان)، ومن هناك ودعنا بعضنا وحزن الفراق يغمر قلوبنا، ظلت في حوزته بندقية زائدة أهداها إلينا وقفل راجعاً إلى مكانه.
سرنا عبر طريق حاجي مامند إلى برزنجة (به رزنجه)، ومنها إلى قرية كازاو، في كازاو، اجتمعنا، أي أعضاء قيادة الحزب الموجودين في كردستان، مع عدد من قادة فرع كردستان للحزب وكوادر متقدمة، وتناولنا بالتفصيل وضع كردستان وأبعاد المستجدات، و ناقشنا ما يلي:
1 -بقاؤنا لوحدنا في ساحة المعركة.
2 -إمكانياتنا العسكرية.
3 – وضعنا المالي المتردي.
4 – حدة وعنف النكسة وتأثيرها السلبي على جماهير كردستان بما فيها المناطق والقرى المتموضعة فيها مقراتنا.
5- وصول أنباء تفيد أن إحدى القوات الكبرى المستسلمة للتو، أعدت لضربنا.
6- احتمال وصول إمدادات مالية إلينا من خارج العراق، وكان احتمالاً ضعيفاً، لا تفي بالغرض ولا تسد شيئاً إن وُجدت.
بعد مناقشة النقاط أعلاه توصلنا إلى نتيجة أكدت استحالة تواصل الثورة ومقاومة حملات الحكومة كحزب (ماركسي- لينيني) يعاديه الحزب الشيوعي العراقي جناح (اللجنة المركزية) المنضم إلى جبهة البعث، وتخلت كافة قوات الثورة الكردية عن ساحات القتال والمقاومة ووصلت إلى إيران، أو ارتضت بالعودة إلى العراق وشمولها بالعفو الصادر من حكومة البعث القاضي بالعفو عن كل المشتركين والمساهمين في الحركة الكردية المسلحة. وعقدنا الأمل على إعادة تنظيماتنا وانتظار فرصة ملائمة في المستقبل القادم. وتعاهدنا أن تبقي رؤوس شهدائنا وحزبنا عالية شامخة لا يطأطأها الخذلان. وكجزء من حركة وطنية تحطمت قواها في تلك الأيام، وقع على عاتقنا قسط من ذلك الحمل الثقيل ولكن كنا أخر جهة وآخر الأشخاص الباقين في القافلة.
أسباب نكسة 1975
بعد هذا المرور على الأحداث التي سبقت نكسة 1975 والوضع السياسي الذي سبقها، يمكننا أن نقسم أسباب النكسة إلى قسمين رئيسيين: أسباب داخلية وأخرى خارجية. تلاحم السببان وأثرا معاً على الوضع المتعلق بكيفيات الثورة. اتحدت الأسباب الداخلية والخارجية، ووجه توقيع اتفاقية الجزائر ضربة قاضية إلى جسد تلك الثورة العظيمة للشعب الكردي ودفعها إلى هاوية مصير مشؤوم.
الأسباب الداخلية
1 – ضعف وتدني مستوى الوعي السياسي والثقافي.
دفع الحس القومي والوطني أعضاء التنظيمات السياسية والعسكرية للانخراط في صفوف الثورة والحزب الديمقراطي الكردستاني، بأمل إجراء تغييرات في جميع مجالات حياتهم، كان المفروض تربيتهم باستمرار وفق برنامج ثوري لتثقيفهم ورفع وعيهم ومستواهم الفكري لتعميق فهمهم للعالم، وما يحيط بهم ويقودوا الكوادر نحو تلافي النواقص، مع ضبط الجانب التنظيمي السياسي والعسكري بين صفوفهم.
بعد اتفاقية آذار 1970، أدت تلك الأسباب إلى تناخر وتآكل التنظيمات وحالت دون أن تستقيم وتتطور وتسير على نحو سليم.
2 – تغيير قوات البيشمركة وتحويلها من قوى ثورية إلى جيش نظامي وبلا تدريب. فالفلاحون الذين التحقوا بالثورة طوعا لأداء الواجب القومي والوطني اقتنعوا في البداية بالخبز الجاف والبرغل وقليل من السكر والشاي، لكنهم تغيروا كثيرا، خاصة بعد اتفاقية 11 آذار 1970 إذ استقروا في إطار قوة عسكرية نظامية وتحسنت أمورهم وأوضاعهم الاقتصادية وبلغت مستوى أرقى. في البداية تشكلت من بعضها قوات (حرس الحدود)، وفي مرحلة ثانية دفعت لكل أفراد قوات البيشمركة رواتب شهرية، كل حسب رتبته.
مع هذه التغييرات، كان يتعين، أن تتدرب تلك القوة العسكرية تدريباً ملائماً ومنسجماً مع قابلياتها، كي تطلع على فنون الحرب والتخطيط وقابليات الخصوم، مثلما يحدث في الجيوش النظامية من تعليم الضباط والجنود أساليب إستخدام السلاح والمخططات الحربية وفق دروس يومية، كان يتحتم قيادة وتدريب قوات البيشمركة على هذه الشاكلة والمنوال.
3 – ظهور التفاوت الطبقي بين القادة والمسؤولين والبيشمركة. ففي أعقاب اتفاقية 11 آذار، طرأت تغيرات على الوضع المالي للثورة في البيئة الجديدة. وتيسر تمييز المستفيدين من الوضع الجديد عن الآخرين بوضوح. اختلف نوع مشرب ومأكل وألبسة القادة المسؤولين وآمري القوات والبتاليون، عما لدى الآخرين في سرعة. ومنهم من كانوا في ضائقة مالية عامة فأصبحوا أصحاب سيارات فخمة وفارهة. أحدث هذا التفاوت الطبقي بؤساً ونقمة في نفوس البيشمركة وسكنة المناطق المحررة. ربما لا يؤثر ذلك النوع من المشاعر في أوقات السلم أو في الأوضاع العادية على الأوضاع كثيراً، ولكن بدا واضحاً انه سيكون عاملاً مؤثراً لتقليل وتخفيف الحماس الثوري في روح البيشمركة المقاتلين وبين جماهير الشعب عامة.
4- اللاجئون في إيران: في آذار 1974 أصدرت الثورة قرارا تحث فيه المواطنين وتشجعهم على ترك المدن والتوجه نحو المناطق المحررة، كضغط على الحكومة العراقية لتبيان جماهيرية الثورة، وتمخضت عن ذلك نتائج غير متوقعة. أغلب الذين غادروا المدن ظنوها تظاهرة مؤقتة ولم يحسبوا حساباً دقيقاً لتعرضهم إلى القصف الـدائم بالمدافع والطائرات، إلى حد أن بعضهم تركوا بيوتهم وأماكنهم مع كافـة أعضاء أسرهم. بالتأكيد لا يخلو هذا الحماس الجماهيري من الصدق والإخلاص والاستعداد لتقديم التضحيات إلا انه ولد وخلف عدداً من المشاكل المستعصية. نعم أصدرت قيادة الثورة هذا القرار إلا أنها لم تدرس وسيلة ضمان وترتيب شؤون هذا العدد الهائل من المواطنين الذين لبوا النداء، خاصة في حالة استئناف القتال، مثلما رأيناه، لذا تشبثوا بإيران لحل المشكلة. ورأينا كيف ازداد عدد اللاجئين في إيران، خاصة بعد قيام الحكومة العراقية بقصف حلبجة وقلعة دزة قصفاً وحشياً وراح اللاجئون من الطبقة المعدمة والفقيرة يسكنون في المخيمات المهلهلة وسط البؤس والفاقة والعوز، أما الأثرياء منهم فكانوا يقطنون في المدن الكبيرة والصغيرة حسب درجة ثرائهم.
شكلت هذه المخيمات حملاً ثقيلاً وصعوبة بالغة في أمور إدارتهم وبالتالي أصبحت إحدى المشكلات الـتي هزت وزلزلت ركب آلاف البيشمركة والمسؤولين، بل أصبحت ذريعة وحجة بيد المتآمرين، إذ اشترط الشاه إلتزام الثورة بنتائج اتفاقية الجزائر والكف عن مواصلة القتال، وإذا بدر ما يخالف رغبة وأوامر الشاه، فستحجز لدى النظام الإيراني الآثم آلاف العائلات بنسائها وأطفالها وشيوخها.
5 – بقاء التقاليد العشائرية من دون أن يطرأ أي تحول إجتماعي يتلاءم مع الوضع الثوري:
بالرغم من التحاق عدد هائل من الفلاحين والكادحين والطلبة بصفوف الثورة وتصاعد مد التأييد المديني لها، وإلا أن العلاقات العشائرية والقبلية بقيت سائدة في الثورة بل طغت في بعض الأحيان على العلاقات الحزبية نفسها. ولم يكن ذلك صدفة محضة، بل انبثق من الطبيعة الطبقية والاجتماعية لقيادة الثورة، حتى أنها منحت المرتزقة من الكرد المشمولين بالعفو مرتباً شهرياً ومؤونة عن طريق رؤسائهم، وكأن المفروض وفق الموقف الجاد والتعامل الصائب تنحية رؤسائهم والتعامل المباشر مع مسلحيهم العائدين إلى الثورة، كي تنفصم عرى العلاقة بينهم وبين الرؤساء.
من جانب آخر كان على قيادة الثورة الالتفات إلى مصالح الفلاحين وكادحي كردستان والاعتناء بمعالجة المشاكل الاقتصادية والطبقية وتوجيههم نحو مقاطعة العلاقات القبلية وإقامة علاقات اجتماعية مبنية على أسس جديدة.
لم تهتم قيادة الثورة بتعميق مضامين الثورة، ما أدى إلى أن تسود عوامل إضعافها وتحطمها في حالة الانتكاسة بدلاً من صمودها وتقويتها.
6 – غياب برنامج وخط سياسي واضح ومحدد. تكون الحزب الديمقراطي الكردستاني من طبقات مختلفة، وقاد تمثيله لتلك الطبقات وصراعها الفكري والسياسي الدائم حول المنهج والموقف والعلاقات السياسية داخل وخارج البلد، إلى صراع دائم، وعكست الثورة الكردية تلك الحقائق منذ البداية، لأن الحزب الديمقراطي الكردستاني قادماً لوحده. فمنذ أيام الخلاف والنزاع القائم بين جناحي حمزة عبدالله من جانب، وإبراهيم أحمد و مام جلال من جانب آخر، ثم نشوء الخلاف القوي بين جناحي إبراهيم أحمد مام جلال و جناح الملا مصطفى البارزاني والحزب الديمقراطي، أصبحت الثورة الكردية ميداناً وساحة للنزاع والاشتباك العنيف المتواصل بين الجناحين. إن تلك الصراعات مستمرة حتى اليوم وتتجلى أسس ظهورها أهدافها في الهيمنة على قيادة الثورة الكردية والانفراد بالسلطة السياسية في كردستان.
خلق العنف الكامن والظاهر في هذا الشقاق، حالة تربص كل طرف للآخر، فكلما أنجز أحد الطرفين عملاً أو شيئاً مهماً كانت قيمته عاداه أو نفاه الطرف الآخر، هذا السبب وأسباب أخرى عرقلت في النتيجة طريق تقدم وازدهار الديمقراطي الكردستاني والثورة، ومنعت كعوامل مؤثرة ظهور برنامج محدد وخط سياسي واضح أمام قيادة الثورة. علاوة على وجود مد وجزر وتصعيد وخفض الكثير في شعارات ومطالب الثورة، منذ المطالبة في البدء بتحقيق مطالب الكرد، اللامركزية، الحكم الذاتي، الحكم الذاتي الحقيقي، فالفيدرالية.
لم تنطو هذه المطالب على رؤية واضحة وبرامج مدروسة وحدود وأطر قانونية. حتى في الحوار بين ممثلي الثورة والحكومة العراقية، لم تصل بعض القرارات إلى صيغة نهائية، وطرحت على مائدة التفاوض أشياء أخرى إضافية لصالح الحكومة بدون أن تتخذ جهة الثورة أي موقف منها.
في حوارات سنوات 1970- 1974، وقبل استئناف القتال تخللت مطالب وشعارات الكرد اضطرابات كثيرة. تراوحت البرامج والخطوط السياسية للحزب الديمقراطي الكردستاني، بين الحوار مع الحكومة العراقيـة وبين إبقـاء العلاقـة مـع الحكومـة الإيرانية، ووقعت فـي دوامة، فاحتـار الحـزب في موضوع الاختيـار والترجيـح بينهما.
لقد زعزع غياب تقويم واقعي للوضع القائم والافتقار إلى الوضوح ودقة النهج السياسي الذي صاغه الحزب الديمقراطي، الصفوف وخلخلها وأحدث فيها ثغرات كثيرة.
في أواخر شهر آذار 1975، وقتما تعرضت جبهات القتال إلى الصدمة والاندحار، بعث المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني رسالة مفتوحة إلى الحكومة العراقية وحزب البعث يدعو فيها إلى الحوار السلمي (وقد بثت إذاعة بغداد تلك الرسالة المفتوحة) ولم يكن الأمر في ذلك الحين تكتيكاً فاشلاً فقط، بل أصبح القرار مرآة عكست الاضطراب السياسي ودل على غياب الرؤية الواضحة في البرنامج والنهج والخط السياسي.