«مباركة».. حكاية محبوكة وانتقاد فني مُبَطَّن لاستغلال الناس والمكان

عبد الكريم واكريم

يتناول فيلم «مباركة» قصة المداوية مباركة التي تقوم بتطبيب سكان بلدة تقع على هامش مناجم للفوسفاط، بنواحي مدينة خريبة المغربية الفوسفاطية، ويشتغل أغلب سكانها من الرجال في هذه المناجم، وقد اختار المخرج محمد زين الدين أن تظل كاميراه داخل البلدة وألا تدخل المناجم نهائيا لكننا كمشاهدين نتابع معاناة أهل البلدة في تدبير حياتهم اليومية، وكيف أنهم يصابون بأمراض جلدية نتيجة الدخان والغازات النابعة من المناجم ليلتجئوا باستمرار لِمباركة لتطبيبهم باعشابها ووصفاتها الطبيعية، لكن مباركة لاتقف عند هذا الحد بل تدخل أيضا عالم الشعوذة خصوصا حينما يتعلق الأمر بها كعاشقة للشاب اللص وبائع السمك الذي تهيم به عشقا برغم فارق السن الكبير بينهما، برغم أنه لايُخلِص لها بقدر ما تعطيه من ذاتها وحبها.
وقد استطاع زين الدين المُنحدِر من المنطقة ذاتها التي صَوَّر فيها فيلمه هذا أن ينقل بصدق فني تفاصيل الحياة اليومية لأناس بسطاء يَتَدبَّرون عيشهم اليومي بدون الانتباه لِكَمٍّ الاستغلال الذي يتعرضون له. وقد انتزع هذا الفيلم أربع جوائز من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة هي : جائزتي الإخراج ولجنة التحكيم، وجائزتي أحسن ممثل وأحسن ممثلة للممثلة المغربية المتمكنة فاطمة عاطف.
تكمن قوة فيلم «امباركة» في كونه يعالج تيمات سياسية واجتماعية مُزمنة بشكل فني غير مباشر ، كونه يضعها في الخلفية ويركز بالأساس على الحكاية والشخوص التي بناها المخرج بدقة وحنكة الحَكَّائِين الكبار. وحينما نعلم أن محمد زين الدين قارئ شغوف بالأدب العالمي وبكبار كُتَّابِه نفهم من أين جاء بقدرته تلك على بناء الشخوص وحياكة مسارها و الحرص على سرد الأحداث بشكل فني قليلا ما نجده في السينما المغربية، والذي يشكل في كثير من أفلامها نقطة الضعف الكبيرة، بحيث يعجز مخرجوها كثيرا فيما يخص الكتابة الجيدة برغم تفوقهم فيما يخص التقنية.
ما يُلفِت النَّظر في فيلم «امباركة « هي شخصية تلك الفتاة المتشردة الضَّاجَّةِ بصمتها منذ بداية الفيلم حتى نهايته والتي أراد بها زين الدين أن تكون الشاهدة على مايقع من دمار، إذ وهي تجمع ما تَشَتَّتَ من أوراق ومستندات في أطلال مَكاتب بِنايات مؤسسة الفوسفاط، تكون وكأنها تَلُمُّ في الآن نفسه وثائق عن خراب منطقة لتُوَثِّقُ لدمار لحق بالمكان والإنسان رغم الثَّروَة العظيمة التي منحتها له ولها الطبيعة بل بسبب تلك النِّعمة التي تحولت نقمة على الناس عوض أن تكون مصدر تنمية وازدهار لهم ولمدنهم وقراهم بسبب فساد تسيير واستغلال غير مُبَرَّر لم يكن في حسبانه أهل المنطقة نهائيا.
ومن بين نقط القوة في فيلم «امباركة» الأداء المتميز للممثلين وعلى رأسهم فاطمة عاطف الآتية بثقل تجربتها المسرحية والتي يمكن لنا الجزم أن دورها في شخصية «امباركة» كان دور حياتها في السينما المغربية التي ظلمتها كثيرا حيث كان مخرجوها يسندون لها باستمرار أدوارا ثانوية وفي أحسن الحالات أدورا رئيسة في أفلام قصيرة، لكنها أبانت في هذا الفيلم أنها تستحق أكثر من ذلك بحملها لفيلم «امباركة» على أكتافها من بدايته إلى نهايته، وكأنها خارجة للتو، بذلك الجسد الأنثوي الفاره، من إحدى الميثولوجيات الإغريقية مُذَكِّرة إيَّانا بممثلة كبيرة من هذا الطراز هي إيرين باباس، خصوصا أن الشخصية التي تؤديها تتقاطع بشكل كبير مع شخوص التراجيديات الإغريقية. أما الممثلون الآخرون فشكلوا بسذاجتهم وعنفوانهم ذلك التوازن الجميل والمطلوب لكي تعتدل الكَفَّة بين الشخوص التي يؤدونها وبين شخصية امباركة التي تتقمصها فاطمة عاطف الآتية بثقلها المسرحي الكبير.
إذا كان محمد زين الدين قد أبان عن تَأثُّر كبير بالأدب العالمي الكبير المتمثل في تلك السيناريوهات المكتوبة بدقة في أفلامه السابقة فقد أكد ذلك وبنضج يفوق بداياته في فيلمه «امباركة» مُؤسِّسا لمسار متفرد وغني في السينما المغربية كانت ما أحوجها إليه، يُعطِي للكتابة الجيدة مكانها ودورها وللشخوص هِبَتها وللسَّردَ المتماسك مكانه الضروري.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة