نوح سميث*
من الواضح أن تغییراً طرأ على طبیعة الفقر داخل الدول الغنیة، فالیوم أصبح نمط الحرمان المادي الشائع في الدول النامیة في حكم الماضي.
ومع هذا، يعیش ملايین الأمیركیین حیاة غیر آمنة تحفها المخاطر، ذلك أنهم دائماً على وشك التعرض للطرد من المسكن، أو لا يعرفون من أين سیحصلون على وجبتهم التالیة، أو غیر واثقین بالسبیل الذي يمكنهم الحصول منه على دخل.
والملاحظ أن هذه الحیاة غیر الآمنة حلت محل الحرمان المدقع باعتبارها السمة الرئیسیة للفقر. ويعتقد الكثیرون أن مثل هذه الحیاة نتاج مجهود قلیل أو اختیارات شخصیة رديئة وتبعاً لوجهة النظر هذه، فإنه لو اتبع الناس ما يطلق علیه مسار السلسلة الناجحة في الحیاة عبر إرجاء الزواج والإنجاب والاستمرار في التعلیم والعمل بجد وما إلى غیر ذلك لن يسقطوا في هوة الفقر.
وتبعاً لهذه الرؤية، فإن برامج الرفاه، مثل كوبونات الطعام والسكن أو توفیر دخل أساسي تأتي بنتائج عكسیة، لأنها تثبط قدرة الفقراء على العمل الجاد والمثابرة، التي يحتاجها الفقراء للخروج من مصیدة الفقر.
إلا أنه في الواقع ربما تعتمد هذه الرؤية على سوء فهم عمیق لما تبدو علیه حیاة الفقراء والیوم بدأ خبراء اقتصاديون في جمع أدلة توحي بأن الفقراء بعیدون للغاية عن كونهم أفراداً كسالى بل هم في الحقیقة أشخاص يتحركون في الحیاة بسرعة محمومة.
في الواقع التعامل مع حیاة محفوفة بالمخاطر يمكن لأي خطوة خاطئة فیها، أو سوء حظ، خلق تبعات كارثیة، يتطلب مجهوداً ذهنیاً هائلاً. ويعتبر الضغط العصبي المترتب على هذا المجهود المستمر، ولیس التراخي أو الكسل الناجم عن برامج الرفاه، الدافع وراء إقدام الكثیر من الفقراء على اتخاذ قرارات رديئة.
من جهته، جاء العالم الاقتصادي سیندهیل مولايناتهان من جامعة هارفارد، في مقدمة الصفوف الساعیة لتحقیق فهم أفضل لتحديات الفقر عام 2013 ،بجانب زملائه أناندي ماني وإلدار شافیر وجیاينغ زهاو، نشر دراسة رائدة بعنوان الفقر يعوق الوظائف الإدراكیة.
ووجد القائمون على الدراسة أنه عندما يفكر المتسوقون منخفضو الدخل في نیوجیرسي في شؤونهم المالیة، يتراجع مستوى أدائهم الإدراكي، لكن ذلك لم يحدث مع المتسوقین مرتفعي الدخول الذين شملتهم الدراسة. ويوحي ذلك بأن التوتر العصبي يؤثر سلباً على العقل أكثر عن الأوضاع المالیة.
وفي تجربة ثانیة حول مزارعین هنود، خلص القائمون على الدراسة إلى أن الأداء الإدراكي كان أسوأ قبل جني المحصول، عندما تكون الأوضاع المالیة متأزمة.
من جهته، وسع مولايناتهان نطاق هذه النتیجة، وحوّلها إلى نظرية عامة حول الفقر، وأعرب عن اعتقاده بأن الندرة تولد ضغطاً عصبیاً يؤدي إلى اتخاذ قرارات رديئة، الأمر الذي يخلق مزيداً من الندرة. وعلیه، يجد الفقراء أنفسهم محصورين داخل دائرة من الشعور بانعدام الأمن مستنزفة، لكن لا فرار منها.
إلا أنه قبل أن تتحول هذه النظرية إلى حقیقة مصدقة، يجب أن تحظى بمزيد من الأدلة.
في الواقع، خلصت عدد من الدراسات التي أجريت مؤخراً حول فقراء داخل دول نامیة وإن لم يكن جمیعها إلى نتائج مشابهة.
مثلاً في دراسة نشرت عام 2019،خلص مولايناتهان، بجانب كل من الاقتصاديین سوبريت كاور وفرانك شیلباك وسوانا أوه، إلى أن المصنعین المتعاملین على أساس التعاقد في الهند يعززون إنتاجیتهم في أعقاب حصولهم على مبلغ نقدي.
ووجد ماني وزمیله غیلهرم لیشاند، أثناء دراستهما حیاة المزارعین في إقلیم فقیر بالبرازيل، أن فترات الجفاف الفعلیة والتفكیر في الجفاف يقلصان مستوى الأداء الإدراكي.
ومع هذا، فإنه في إطار دراسة حديثة أخرى أجراها الاقتصاديون فیوتیك بارتوس ومیشال باور وجولي شیتیلوفا وإيان لیفیلي خلصت الدراسة إلى أنه عندما يفكر مزارعون أوغنديون في المشكلات المرتبطة بالفقر، يصبحون أكثر احتمالاً للسعي وراء الترفیه وإرجاء العمل.
وعلیه، فإنه حتى عندما يختار الفقراء تجنب بذل مجهود، فإن هذا يكون ناجماً عن الضغط العصبي، ولیس الكسل والخمول.
وبدأت الأدلة في التراكم لصالح نظرية مولايناتهان، لكنها في معظمها، إما نتاج دراسات معملیة قد لا تنطبق على عالم الواقع أو دراسات أجريت في دول نامیة.
ومن أجل التأكد على وجه الیقین من أن هذا هو الأسلوب الذي يعمل به الفقر، يحتاج خبراء الاقتصاد إلى أدلة ترتبط بسلوك الفقراء الیومي داخل دول متقدمة.
ومن الممكن أن يستغل خبراء اقتصاديون توقیتاً عشوائیاً لصرف شیكات الإعانات الحكومیة مثلاً، للتعرف على ما إذا كانت هذه الدفقة النقدية جعلت الفقراء أقل احتمالاً تجاه اتخاذ قرارات رديئة.
حال صمود هذه النظرية، فإنه سیترتب علیها نتائج مهمة من حیث كیفیة سعي الحكومات للحد من الفقر، فبدلاً من جعلها مشروطة بالعمل الأمر الذي يؤجج الضغط العصبي والمخاطر ينبغي أن تصبح مدفوعات الرفاه غیر مشروطة.
والمؤكد أن ضمان دخل أساسي شهري، بجانب مزايا أخرى مثل الرعاية الصحیة، سیزيح قدراً كبیراً من الضغوط العصبیة على عاتق الفقراء الأمیركیین، ويمكنهم من إعادة تركیز اهتمامهم على كیفیة الخروج من الفقر، بدلاً من الاهتمام بكیفیة ضمان مجرد البقاء من يوم لآخر.
ويتعین على الولايات المتحدة كذلك القضاء على عوامل أخرى تعزز الضغوط العصبیة على الفقراء، ومن ذلك ضرورة استبدال ساعات العمل غیر المنتظمة بجداول عمل منتظمة، وإلغاء تجريم الماريغوانا، إن لم يكن تقنینها صراحة. وربما ينبغي كذلك إلغاء الغرامات النقدية عن الجرائم غیر العنیفة، بجانب تیسیر الحصول على بطاقات هوية من الحكومة.
وينبغي أن تعمل الشرطة داخل الأحیاء الفقیرة على تقلیل أعداد المخالفات التي يجري احتسابها عن خروقات صغیرة مثل زيادة السرعة قلیلاً عن الحد المسموح به، بجانب ضرورة جعل مسألة طرد الأفراد من مساكنهم أمراً أكثر صعوبة مما هو علیه الیوم.
وتلك بعض السبل التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها تقلیص الضغوط المحمومة على كاهل فقرائها، الذين يعانون غیاب الشعور بالأمان.
*كاتب في «بلومبيرغ»